أذكر من قراءاتي الباكرة كتاباً قديماً وجدته في مكتبة أبي. أفاض الكاتب لا أذكر من هو في اجتهاد سخيف. ومغلوط من ألفه إلي يائه. وإن كان له الفضل في تنبيهي إلي خطورة الاجتهادات الغربية المغرضة التي تمثل بالتأكيد بعداً مهماً في اجتهادات الاستشراق. مع ذلك. فلعلي أصارحك بأني أرفض غالباً نظرية التآمر. يصعب القول إن "الاستشراق هو عين الاستعمار التي بها يبصر ويحدق". ومن الصعب القول أيضاً إن المستشرقين ليس بينهم منصف. فضلاً عن متعاطف. وإنهم جميعاً ملة واحدة يهدفون إلي غاية واحدة. وهي إطفاء نور الله. بل إن البعض يري أن القاعدة التي لا تتغير. هي أن الاستعمار يصحبه الاستشراق دوماً. والتوسع الاستعماري يصحبه التوسع الاستشراقي دوماً. وفي المقابل. فإن الكثير من اجتهادات المستشرقين يصدر عن الغرض. ووجهة النظر الاستعمارية. واختلاف العقيدة. إلي حد رفض العقيدة المسيحية لديانة الإسلام. والإحساس بالتفوق. وترسبات الغزوات والانحدارات الصليبية. وعلي حد تعبير جارودي. فإن المستشرقين أظن أنه يقصد غالبيتهم يشغلهم الانتقاص من الحضارة العربية. وإن أمكن. فتغييبها من الذاكرة. عاني العرب والإسلام من اتهام المستشرقين بأنه دين مقطوع الصلة بحضارة العصر. فهو يرفضها. مقابلاً لعجزه عن اللحاق بها. وثمة مزاعم أن القرآن استمد الكثير من موضوعاته من مصادر يهودية ومسيحية. وثمة من ينظر إلي الإسلام باعتباره ديناً يدعو إلي الخوف وعدم الاطمئنان. وبخاصة في ضوء "سماحة" الدين المسيحي!. وهي نظرة كما تري تهمل دعوة الإسلام إلي العدل والتكافل والمساواة بين البشر. وادعاءات بأن الرسول كان يدعي الوحي. وأنه كان يعاني نوبات صرع واضطرابات عصبية. وكان مصاباً بالهستيريا. وهناك من حاولوا التشويه عن طريق تأويل معاني القرآن تأويلاً فاسداً يغفل الدلالات الحقيقية.. والعديد من كتب الاستشراق لاتزال حتي الآن كما يقول إدوار سعيد "تنشر الكتب والمقالات باستمرار. عن الإسلام والعرب. وهي لا تختلف إطلاقاً عن الجدل الخبيث المعادي للإسلام في القرون الوسطي وعصر النهضة". ويركز بعض المستشرقين علي النماذج السلبية من الأدب العربي. مثل الغزل الجنسي. والاتجاهات المنحرفة في التصوف. وتزييف الوقائع التاريخية. واختلاق السير. والتكسب بالشعر. ومداهنة السلطة إلخ.. ويعتبرون تلك النماذج ممثلة للتراث العربي. والإسلامي بعامة. وتبين الخطورة عن ملامحها. عندما نعلم أن الصورة التي صنعها المستشرقون عن دول العالم الإسلامي كان لها أكبر الأثر علي صانعي القرارات في حكومات الغرب. ربما أسرف البعض في نقل الاجتهادات التاريخية للاستشراق. لكن من الصعب القول إن الاستشراق قد بدل أفكار العرب في التاريخ. فضلاً عن الفقه والحديث والتفسير إلخ. بل إن عاطف العراقي يؤكد أنه لولا الاستشراق لما عرفنا نحن علومنا. بكافة أنواعها. وبمسلاتها وميادينها كعرب. لقد وجد الاستشراق لو التزمنا بالدقة في التتبع التاريخي منذ أكثر من عشرة قرون من الزمان. ليبقي. وقدم لنا أهله صفحات بيضاء. المنهج هو الإنجاز الأهم ولعله الوحيد للاستشراق في العقلية العربية. لم تعد الدراسات توضع عفو الخاطر. إنما هي تؤطر داخل قانون علمي صارم هو المنهج. وهو إنجاز ذو أهمية قصوي بالفعل. والحق أن الاكتفاء بالسخرية من نقداتنا للاستشراق. وللفكر الغربي بعامة. مثل الدعوة إلي عدم استعمال التكنولوجيا الغربية. ينطوي علي مغالطة سخيفة. فلا خلاف علي أن العلم والتكنولوجيا في أبعادهما الإيجابية يتسمان بالعالمية وعدم المواطنة. لأنهما يتجنسان بجنسية العلم نفسه. ويحصلان علي هويته. ومن حق أي امرئ. في أي مكان في العالم. أن يفيد منها. أما إذا تحددت معطيات العلم والتكنولوجيا في الأبعاد السلبية. كالقنابل الجرثومية أو الكيماوية وغيرها مثلاً. فإن الرفض يطرح نفسه كضرورة أخلاقية وحتمية. الأمر نفسه بالنسبة للثقافة التي تحرص علي الإضافة والتطوير ومستقبل الإنسان في إطلاقه. بعكس الثقافة التي تحمل وجهات نظر استعمارية أو مغرضة. والمثل الذي يحضرني: ثقافة العدو الإسرائيلي التي تعتمد الكذب والأسطورة والخديعة. وتتغافل الحقائق المؤكدة.