(الاستشراق المعاصر.. جاك بيرك نموذجا) عنوان أحدث كتاب صدر في القاهرة للكاتب المصري الدكتور مصطفي عبدالغني, يضم الكتاب مقدمة تاريخية موثقة تبين العلاقة المريبة بين الاستشراق والتبشير منذ فترة مبكرة من التاريخ العربي في العصر الحديث, إضافة إلي مجموعة أخري من الفصول التي سعت إلي فحص هذه القضية من مختلف زواياها وأبعادها الثقافية والسياسية. وهي كالتالي:( من القراءة إلي التفسير) و( الميثولوجي في ترجمة معاني القرآن) و(الذات في مرآة الآخر؟).. كل ذلك عبر دراسة علمية ودقيقة لأحدث ترجمة لمعاني القرآن الكريم, والتي كتبها المستشرق الفرنسي الأشهر جاك بيرك. ومن البداية يضعنا المؤلف أمام ملاحظة ذات دلالة موحية لا تخفي علي أحد من المهتمين بدراسة الاستشراق وخصوصا في فرنسا, حيث يقول: إن جاك بيرك لم يكن أول من ترجم معاني القرآن الكريم, فقد سبقته في الفرنسية- خاصة- أكثر من عشرين ترجمة أخري; إلا أن ترجمته تعد آخر الترجمات وأهمها إلي الفرنسية, كما أن صاحبها كان عضوا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة, بل يعتبر من المستشرقين القلائل الذين كان لهم مقعد في مجمع اللغة بمصر, كما أنه مارس عمله بشكل جاد بالمغرب العربي لسنوات, وهو بهذا يمكن أن يترجم ما يريده هو وليس المترجم المحايد وهو خطر آخر يضاف إلي هذه الترجمة, خاصة أن المسلمين الموجودين في فرنسا والذين يصل عددهم الي عشرة ملايين مسلم, لا يعرف الكثير منهم اللغة العربية,. لذلك بحسب المؤلف بصريح العبارة, تتحدد أكثر خطورة هذه الترجمة; فجاك بيرك هو الذي يترجم معاني القرآن الكريم, وهو كما أشرنا عضو مجمع اللغة العربية, كما أنه رجل موثوق به في الدوائر العلمية العالمية إلي حد كبير. الأمر الذي يحمل خطرا داهما من وعلي ترجمته لمعاني القرآن الكريم, خاصة أن جاك بيرك كان أقرب إلي ما يمكن تسميته المستشرق الخبير إذا جاز القول وهو ذلك المثقف الغربي المعاصر الذي يعمل في المراكز البحثية الغربية بهدف تقديم الدلالات, إلي أجهزة الاستخبارات, مثلما سعي اليها المستشرق الغربي عبر منهج بحثي صارم, أراد من خلاله أن يترجم به الذائقة الغربية أو بالأحري( الخطاب الغربي) كما يريد أن يفهمه الاستعمار في دلالاته المعروفة, أو كما يراه الخبير المعاصر في مراكز الأبحاث الغربية كما تريده( الإمبريالية) الرأسمالية. فقلد جمع هذا المستشرق الجديد, بين علمه وبين تبعيته لأجهزة المخابرات, مهما حملت من أسماء, كهذه المراكز البحثية التي امتدت من أقصي الشمال, حتي أدني مدن الجنوب الإسلامي بمسميات مختلفة وارتباطات عنصرية ومالية مشبوهة. علي كل حال, فقد آثر د.مصطفي عبدالغني أن يتوقف بنا عند نموذج دال أشد الدلالة, ليس في المستوي الكيفي فقط, وإنما أيضا مرورا بالمستوي الرأسي, لذلك فإنه يشير إلي أهم رموز الفكرالغربي الحديث بكل ما حوت أعمالهم من دلالات بعيدة المدي, قريبة المغزي والمعني والدلالة. ولعل هذا ما يدفعه أكثر إلي الوقوف عند حالة جاك بيرك وهي من وجهة نظره, حالة مثالية تشرح بلا مماحكات فارغة أو فزلكات إنشائية لا فائدة منها, إشكالية الاستشراق الأخير التي يعبر عنها خير تعبير المفكر الفرنسي جاك بيرك آخر المستشرقين البارزين لها في العصر الحديث, وبذلك تكتمل دورة الاستشراق الغربي في غبن الشرق الإسلامي; والذي تحول غبن أعنف من خلال تحول الاستشراق التقليدي إلي استشراق آخر من نوع, يمكننا أن نسميه في الولاياتالمتحدةالأمريكية( الاستشراق الجديد). وفي الحالتين لا يمكننا العثورعلي المترجم المستشرق(= المبشر أو الخبير) المنصف في جميع الحالات, خصوصا في هذه الترجمات أو الكتابات الجديدة. فإذا كان المستشرق التقليدي قديما تحول الي مبشر, إلا أنه تحول اليوم إلي( خبير) يعبر عن معاهد ومؤسسات بحثية تابعة تبعية مباشرة للإدارات الغربية والامبريالية, وبالتالي فليس المطلوب منا تحليل هذا الخطاب لعناصره الأولية وحسب, وإنما المطلوب- قبل هذا وبعده- التأكيد أن هذا الخطاب المتعالي هو السائد لدي الجميع,وأن خطورته لاتزال قائمة. في هذا السياق يوجه الدكتور مصطفي عبد الغني نقدا عميقا لما سماه التأثير السلبي للميثولوجيا علي ترجمات القرآن, سواء تلك التي تأثرت بالكتب الدينية- العهد القديم والعهد الجديد- أو بالأساطيراليونانية التي يعتقد أنها فاقت الحد.. خاصة أن العقل الغربي يري- متعمدا-أن القرآن الكريم أخذ من ارسطو والإسكندر الأكبر وأسطورة سيزيف, أو أفكار أخري تكررت متأثرة بالتفكيرالميثولوجي حال ترجمة معاني القرآن الكريم. ويقول إن هذا الخط الميثولوجي- كارثي النزعة- ظل لدي جاك بيرك رغم اجتهاده, في الترجمة الفرنسية.. وبالتالي فإن هذا- بوضوح- يعني أن الترجمة كانت تعكس حالة من النقد السياسي الخاص بالكولونيالية, ولذلك يبين تحليلنا للغة الخطاب الكولونيالي, أن معاداة النزعة الإنسانية لم تكن مجرد مشروع فلسفي وحسب, وإنما كانت مشروعا مباشرا في معاداة الفكر الديني العربي أيضا. لذلك فإننا حين ننظر إلي الوراء بحثا في سراديب التاريخ, فسوف نجد هذا المستشرق التقليدي صاحب التوجه الكولونيالي الاستعماري في أوروبا خاصة, وحين ننظر إلي الحاضر نجد هذا الميراث وقد ارتدي ثياب الامبريالي العسكري في الولاياتالمتحدةالأمريكية, فإذا كان الخطاب الأول يتركز في صيغته الاستعمارية والتبشيرية, فإن الاتجاه المعاصر يتعدد- عبر مشاريعه الكثيرة- في صياغاته الكثيرة المتعددة; هل نذكر مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الأكبر- في صيغته الامبريالية الجديدة..؟ وانطلاقا من الاستشراق التقليدي وتجلياته الانثربولوجية, وصولا إلي التغييرات السلبية التي أسهم فيها الصهاينة والخبراء الأمريكيون في المراكز العلمية والمخابراتية والإعلامية, يلاحظ المؤلف التحول في صورة( الآخر) الذي أعد وروج لها خطاب( الخبير) الأمريكي. قائلا إننا نستبدل المبشر الأوروبي بالخبير الأمريكي.. وهو ما يصل بنا إلي معرفة طبيعة المناخ العلمي الأمريكي لنري أن معني الاستشراق الآن لايتخذ هذا الشكل الذي يتسم به الاستشراق التقليدي في الغرب الأوروبي, بل اننا في الواقع نستبدله بإتجاه أكثر عنفا وامبريالية. هذا الوضع الصعب يفرض علينا من بين ما يفرضه ضرورة البحث عن الدور العربي المفقود; ماذا نفعل إذن ؟.. ويجعلنا في مواجهة صريحة مع الكثير من الأسئلة الحائرة التي طرحها المؤلف.. لماذا- هكذا نردد- لا نترجم نحن معاني القرآن الكريم, فضلا عن القيام بالمراجعات الإسلامية النقية ؟ وأين جهودنا نحن بغير أن نلوم هذا المستشرق القديم(= المبشر) أوذاك المستشرق الجديد( الخبير) ؟ ثم لماذا لم نتخلص من المستشرق التقليدي صاحب الخطابات الكولونيالية والاستعمار القديم, ولماذا لم نتخلص من المستشرق الجديد صاحب الخطابات الامبريالية الجديدة؟ وتتوالي أسئلة أخري كثيرة من قبيل:- عن أين جهودنا ؟- وأين سعينا للخلاص من النزعة الأوروبية أو الأمريكية ؟ فإن كنا قد رفضنا الأنساق الاستعمارية والإمبريالية, إذن فعلينا القيام بواجبنا في الترجمة والتعبير الدقيق الصادق عن تاريخنا وأنفسنا؟. وبعد, فهذه دراسة مهمة للمفكر المصري الدكتور مصطفي عبدالغني- عن جاك بيرك الذي يعد نموذجا فريدا لهذا الاستشراق قبل أن يتحول الباحث أو المترجم إلي المراكز البحثيةthinktank; ويصبح المستشرق التقليدي فيها هو الباحث الخبير الذي يعمل تحت إمرة الجهات المخابراتية الاستعمارية والامبريالية الجديدة.. وتفضح ظاهرة المراكز البحثية المتعددة التي ذاعت في نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين, بكل ما تحمله هذه الظاهرة من معان ودلالات إرتبطت بحركة الاستعمار الغربي الأوروبي للعالم العربي والإسلامي, والامبريالي الأمريكي علي وجه الخصوص.. وهو ما سعي المؤلف لتأكيده عبر هذا الكتاب الممتع.