من بروفة على مسرحية طفولية وترنيمة كنسية هادئة استعدادا لاحتفالات الكريسماس، إلى خطوات خشنة لشخص غامض يدهس الثلج المختلط بأوراق الشجر اليابسة ويحاول يائسا دخول أحد المنازل. هكذا وخلال أقل من دقيقتين تكون قد أخذت مكانك فى قلب الحدث مباشرة، فهذا القطع الحاد المفاجئ فى الصوت والصورة ليس خطأً فى مونتاج الفيلم وإنما محاولة ناجحة من المخرج بيتر هيدجز لإقحام المتفرج فى حالة التوتر التى سيعيشها فى الدقائق المئة المقبلة مع أبطال فيلم «عودة بِن». ....................... لن تمر دقائق أخرى حتى تعرف أن هذا الشخص الغامض ليس إلا «بِن» (لوكاس هيدجز) الابن الشاب المدمن للأم «هولى» (جوليا روبرتس)، وهاهو يعود بشكل مفاجئ إلى بيت العائلة بينما من المفترض أن يكون فى هذا الوقت فى المصحة التى يعالج فيها من الإدمان منذ شهور قليلة، فلماذا أتي؟ وهل هرب أم هى رغبة المسئول عن علاجه –كما ادعي-؟ وما الذى حدث قبل دخوله المصحة؟ وما قدر الألم الذى تسبب فيه لأقرب الناس له ما يجعلهم يعاملونه بهذا الحرص وهذه الريبة فى كل تصرف وأى حركة يقوم بها؟ وهل يمكن لأحد أن يثق فيه ثانية؟ وكيف ستمضى الساعات الأربع والعشرون المقبلة التى ستدور فيها أحداث الفيلم؟ كلها أسئلة ستتكشف إجاباتها تباعا مع مرور أحداث الفيلم. موضوع تقليدى ولكن ربما يكون موضوع الفيلم تقليديا وتم تقديمه مرارا عن شاب يحاول التعافى ويقاوم رغبته التى تجره بقوة للعودة إلى غياهب الإدمان، وأم تقاوم تصديق الحقيقة التى تؤكدها كل المعطيات حولها وهى أنها لن تستطيع استعادة ابنها مجددا، وربما يكون موعد عرض الفيلم الذى يعالج موضوعا إنسانيا ميلودراميا فى نهاية العام بالتزامن مع موسم الجوائز ما يؤكد هذه التقليدية حسب الكتالوج الأمريكى، ولكن على الرغم من ذلك كانت معالجة المخرج/المؤلف بيتر هيدجز مختلفة فى نعومة طرحه لحالة الحب الشديدة التى تجمع الأم بابنها، على الرغم من حفاظه فى المقابل على حالة دائمة من التوتر والشك، فهو لا ينصر أبدا إحدى كفتى الأمل أو الاستسلام على الأخرى، بل يجعل الصراع بينهما مستمرا لآخر وقت؛ فإن كانت المعطيات والحقائق التى تتكشف تباعا ترمى إلى إغلاق الطريق أمام أى شعاع أمل، فالحب فى المقابل ربما يصنع معجزة جديدة ولطالما عودتنا القصص والأفلام على ذلك. فكان الحفاظ على تلك الحالة من أدوات هيدجز المهمة فى الإبقاء على التشويق مستمرا حتى المشهد الأخير. جوليا الناضجة التقليدية تجاوزها كذلك بجدارة أداء جوليا روبرتس التمثيلى، فقد وصلت إلى درجة من النضج والقدرة على التشخيص إلى درجة احتوائك بالكامل فى الشخصية التى تقوم بتجسيدها، فلا تملك إلا التعاطف معها فى لحظات يأسها ولحظات مقاومتها على السواء، ناهيك عن عينيها اللتين تستطيعان نقل كل المشاعر مهما كانت متناقضة ومهما كانت دفينة؛ فهى تعيش صراعا طوال الوقت؛ أم مكلومة فى ابنها الأكبر ولديها فى الوقت نفسه الأمل فى استعادته، دون أن تنسى أن لديها ثلاثة أبناء آخرين لا ذنب لهم فيما فعله هذا الأخ ولا يجب أن يدفعوا أى ثمن، كما أن زوجها الجديد «نيل» (كورتنى بى. فانس) يكفيه ما يتحمله ماديا ومعنويا لعلاج ابنها وهى تتفهم بالطبع حرصه على حماية أسرته من الانهيار بسبب هذا الشاب غير المسئول. أما رغبتها الشديدة إلى حد القسوة فى عدم إعطاء الابن أى فرصة للشعور بأنه يستطيع استغلال حبها لتتخلى عن جديتها فى مراقبته طوال الوقت أو بأنها تثق فيه بأى قدر، هى رغبة مغلفة بحب تنبض به عيناها الدامعتان دوما، حب لا تهزه المفاجآت المتتالية شديدة القسوة التى ستعرفها عن عالم ابنها الخفى الذى تكون فى غفلة منها، وهى الغفلة التى تلوم نفسها عليها باعتبار أن هناك تقصيرا ما منها أوصل الأمور كلها إلى هذا الحد. ابن المخرج المنطلق الأداء الجيد لم يتوقف على جوليا بل شاركها فيه الممثل الشاب لوكاس هيدجز الذى أدّى شخصية الابن، وهو فى الوقت نفسه ابن المخرج بيتر هيدجز، ويعد واحدا من أفضل الممثلين الصاعدين الذين يتطور أداؤهم بشكل سريع، فقد ترشّح للأوسكار قبل عامين عن دوره المساعد فى فيلم «مانشستر على البحر» قبل أن يشارك العام التالى فى فيلمين مهمين هما «ليدى بيرد» و»ثلاث لوحات إعلانية خارج إيبينج، ميسورى»، الفائز بجائزة اختيار الجمهور فى مهرجان تورنتو الدولى السينمائى لعام 2017، بجانب عدة جوائز فى الجولدن جلوب والأكاديمية البريطانية للأفلام وغيرها، وفاز لوكاس عن دوره فيه على أفضل ممثل مساعد ضمن جوائز نقابة ممثلى الشاشة الأمريكية (ساج). أما فى أدائه لدور «بن» فقد ابتعد كذلك عن أية تقليدية فى الأداء، فلم نر ذلك المدمن الذى يهرش جسده أو يحك أنفه، فهو ليس فقط يدرك جيدا أن الشخصية التى يؤديها فى دور التعافى حتى وإن كان يمر بمرحلة انتكاسة نفسية، ولكنه أيضا لم يستسلم لإغراء مثل هذه الأدوار على مستوى الأداء الحركى، بل جعل كل مشاعره داخلية ومكتومة إلا بالقدر الضئيل المسموح به للشخصية حيث يجب أن يبذل الابن جهودا مضنية فى السيطرة على انفعالاته ليقول للأسرة إنه بالفعل صادق فى رغبته فى العلاج هذه المرة. «عودة بن» من الأفلام متوسطة الإنتاج التى تم طرحها فى الولاياتالمتحدة نهاية العام 2018، ولكنه يقدم نموذجا فريدا للأم التى نحتفل بعيدها المصرى هذه الأيام، وبيومها العالمى هذا الشهر.