بقلم:أسعد طه أحببت الحكاية منذ الصغر, منذ أن كان والدي رحمه الله يصطحبني إلي مكتبة صديقه, الخواجة اليوناني في السويس, فأقضي فيها وقتا طويلا, أقرأ وأقرأ وأقرأ, فيما هما يحتسيان خارجها القهوة, رائحة الكتب والطباعة مازالت تزكم أنفي وفي الصغر أيضا أدهشتني صديقة أختي الكبري, تشاهد فيلما سينمائيا فتقصه في ضعف مدته الزمنية, إنها تصف كل شاردة وواردة, وتحكي بدقة متناهية تفاصيل المشهد, الملابس والخلفية والإضاءة والمؤثرات الصوتية, قدرة غير عادية علي السرد ولما كبرت قليلا كنت أسأل نفسي دوما عن سر الحكاية في القرآن, تذكر مرة ومرة ومرة, أقرأ تفسيرات متعددة لا تقنعني كثيرا, أستغرب, أواصل القراءة وأستمتع لاحقا أدركت أن الحكاية أشبه بالسحر, بقدر ما يتقنها صانعها, بقدر ما يتسمر أمامها القارئ أو السامع أو المشاهد, فتفعل به الأفاعيل, ثم تمر الأيام لينقلها لمن هم بعده, وكأنها أمانة يجب حفظها وتسليمها للأجيال المتتالية الحكاية هي الأسلوب الأمثل والمحبب للنفوس, نسمعها صغارا من آبائنا وآمهاتنا, ونسردها كبارا علي أطفالنا لينقلوها إلي أطفالهم, ويشترك الجميع في أنهم يدسون فيها ما شاء لهم من أفكار يريدون تمريرها في عالمنا العربي من بوسعه أن ينسي مثلا ألف ليلة وليلة, وسيرة عنترة بن شداد, وأبو زيد الهلالي, بل وعلي بابا والأربعين حرامي, والسندباد, والحكواتي وحكاياته التي يسردها في المقاهي وأماكن تجمع الناس في سهراتهم الحكاية لجأ إليها الفرد ولجأت إليها الشعوب, وفي ذلك أستوي الجميع علي وجه الأرض وعلي مرور الزمان, فكانت تسجيلا للتاريخ, وتوثيقا للأحداث الكبري, ورسما لا يمحي لثقافات الشعوب وعاداتها وتقاليدها, ودعوة غير مباشرة لقيمة ما, فكانت القصة والرواية والموال الشعبي والشعر والزجل والأفلام السينمائية, أما الأفلام الوثائقية فإن هناك من يقول إنها شأن آخر, غير إني أعتقد إنها ليست سوي حكاية ورد في تعريف الفيلم الوثائقي أنه رؤية شخصية للواقع, ويقول الناقد السينمائي أمير العمري إنه ضمن المفهوم الكلاسيكي القديم فإن الوثائقي يقع بالضرورة خارج الخيالي, فهو الموضوعي, الذي يستمد الفكرة من الواقع, ويعرض الحقيقة الموضوعية من داخل الواقع, لكنه يحللها ويفسرها ويصل إلي طرح رسالته من خارج الواقع أي من خارج تلك الصور واللقطات المتعاقبة, وإن كان ذلك استنادا إلي ما يمكن استنتاجه منها من خلال سياق معين يلعب فيه المونتاج الدور الرئيسي, ويساعد التعليق الصوتي المصاحب في دعم هذا السياق والتأكيد عليه وعلي موقع الصورة الوثائقية قرأت أن أفضل من فصلوا في مفهوم الفيلم الوثائقي هو المخرج الوثائقي باري هامبBarryHampe الذي ينتقد الأفلام الوثائقية التي تعتمد كثيرا علي المقابلات, لأن حديث الناس وحده لا يصنع الفيلم بل أفعالهم هي التي تصنعه, المشاهدون يريدون البرهان والشاهد علي صدقية القضية التي تصورها, فلا يكفي أن تجري مقابلات مع الشخصيات, بل يلزمك أن تقدمVisualEvidence, وهو أن تخرج مع الشخصيات وتصورهم كما لو أنهم يمارسون حياتهم بالشكل الطبيعي بما يرتبط مع أصل موضوع الفيلم, ولذا فهو يؤكد علي حركية الصورة حيث يقول: الكاميرا لا تجعل الصورة ممتعة, إنما فعل الناس هو ما يجعلها كذلك بعد تجربتي المتواضعة في الإنتاج الوثائقي لا أجد خلافا في ذلك كمفهوم عام, لكن أري أن الأمور مؤخرا تداخلت إلي حد بعيد في المفاهيم بين الوثائقي والدرامي, أي بين الفيلم الخيالي( الدرامي) الذي يصنف علي أنهfiction أي مبني علي الخيال أساسا أو علي قصص واقعية ولكن بمعالجة وسياقات مصطنعة, وبين الفيلم الوثائقيdocumentary الذي هو علي النقيض من ذلك يعتمد علي نقل الحقيقة وتجسيد الواقع, فيتناول أشخاصا حقيقيين, وقضايا حقيقية, في سياق حقيقي, ويصنف ضمن الأفلام الحقيقية أي أنهnonfiction لكني أري أن الخيال مطلوب أحيانا لإدخال المتعة علي قصة حقيقية بإبطالها الحقيقيين ليتابعها المشاهد بنفس الشغف الذي يتابع به الفيلم الدرامي السينمائي, وأن الصورة التقليدية للوثائقي المبني علي لقاءات وغرافيك وصوت معلق أجش ينهال علينا بالمعلومات يجب أن يتغير, أو بالأحري لا ينصف علي أنه فيلم وثائقي وإنما ربما برنامج وثائقي في الجزيرة كانت لي تجربتان, هما سلسلتان, أحدهما نقطة ساخنة أسميه أنا برنامج وثائقي, يتبع نفس الطريقة التقليدية المعروفة, فيما الآخر هو يحكي أن يعتمد علي الحكاية وعلي مشاهد إعادة التمثيل, فيأتي ذلك في ظني مطابقا لتعريف الفيلم الوثائقي علي لسان رائده جون جريرسون بأنه المعالجة الخلاقة للواقع, إذن ثمة واقع, قصة حقيقية وقعت, وثمة أبطال حقيقيون, ولذا لم أجد هذا التناقض بين الخيال والواقع أظن أنه بوسعي وبوسع من تكون له أي تجربة في هذا المجال أن يكون له مفهومه الخاص عن الوثائقي, وقد أخترت أنا ما حذر منه أفلاطون, وأفترضت أن الفيلم الوثائقي ما هو إلا حكاية في كتابه الشهير القصة: مباديء الكتابة للسينما تحدث روبرت مكي عن تلك الحادثة التي وقعت قبل الميلاد بأقل من أربعمائة عام, حين كان أفلاطون يلح علي آباء مدينة أثينا بأن ينفوا كل الشعراء والحكائين, لأنهم برأيه يخفون أفكارهم داخل عواطف الفن المغوية, ولأن قصصهم مؤثرة تشع كل منها فكرة مشحونة للمتلقين, تدفعهم لكي يؤمنوا بها, ويصدقوا معناها حتي وإن وجدوها كريهة من الناحية الأخلاقية, لقد كان عمنا أفلاطون مصرا علي أن حكائي القصص أناس خطرون, ويبدو أنه كان علي صواب في ذلك, حتي أولئك صانعي الأفلام الوثائقية!