مع فيلم (عصافير النيل) تعود السينما المصرية من جديد لتنهل من منابع روائع الأدب المصري . وهي تعود هذه المرة تحديدا وبعد غياب لرواية جديدة لإبراهيم أصلان الذي سبق أن أعد فيلم (الكيت كات) عن روايته مالك الحزين . لا يكتفي المخرج مجدي أحمد علي هذه المرة بالاعتماد علي نص أصلان الأدبي كمصدر للسيناريوالذي كتبه كمخرج بنفسه، بل إنه أيضا يعتمد كثيرا علي حوار الرواية إلي الحد الذي يجعله ينسب وبأمانة نادرة نص الحوار إلي كاتب الرواية . وإذا كان داود عبد السيد في فيلم (الكيت كات) قد اختار خطا أساسيا من رواية أصلان مكتفيا به كمحور لبناء درامي يعتمد علي دراما الشخصية التي تتحلق حولها باقي الشخصيات وتتشكل صورة لعالم واقعي وساخر ومدهش ومثير للتأمل من خلالها . فإن مجدي أحمد علي يلجأ إلي أسلوب مختلف تماما في معالجة النص الأدبي، يسعي من خلاله إلي الاستفادة بأكبر قدر ممكن من تفاصيل الرواية وشخصياتها وأحداثها . يحقق ذلك بالاعتماد الكامل علي خطوطها العريضة وما تطرحه من أفكار ورؤي وتحليل عميق لعالم له خصوصيته من الريفيين القادمين للمدينة بتقاليدهم ومعتقداتهم وثقافتهم ليواجهوا هذا العالم المختلف الممسوخ بقيمه الغريبة وشروطه المعقدة وأخلاقياته المختلفة . يستهل مجدي أحمد علي فيلمه ببداية سينمائية قوية حيث يتعرف عبد الرحيم - فتحي عبد الوهاب - بالكاد علي بسيمة - عبير صبري - ، حبه القديم الأول والحقيقي داخل المستشفي الذي يعالجان فيه من السرطان . يحقق المخرج تتابعا بصريا وحركيا وانفعاليا ليصل بنا إلي ذلك اللقاء المؤثر الذي يصوره رمسيس مرزوق بإضاءة تتناسب مع عمقه النفسي ودراميته القوية . فتظهر بسيمة من عمق الكادر ومن قلب النور الباهت لتبدو بمظهرها العليل المتماسك وفي ظل أجواء محسوبة من الأضواء والظلال كإطلالة علي ماض جميل ولكن دون أن تفقد الصورة تشبعها بحالة الشجن والذي يتناسب مع واقع المكان البائس في مستشفي حكومي ومع ظروف الشخصيات المريضة الحزينة الفقيرة . وكأن الفيلم يبدأ من نقطة النهاية، وكأنه يصارحك من البداية بأنه لن يأخذك إلي عالم من الخيال الكاذب . ومع صوت الراوي سوف تنتقل بك الأحداث إلي الماضي لمعظم الوقت وعبر أزمنة مختلفة لتتعرف علي حكاية أوحكايات عبد الرحيم مع النساء والمدينة . تتوالي المشاهد البليغة والموحية مع وصول عبد الرحيم للقاهرة لاستلام عمله بهيئة البريد حيث يقيم مؤقتا مع أخته نرجس - دلال عبد العزيز - وزوجها البهي - محمود الجندي - في بيت فقير من بيوت المدينة الشعبية بحي إمبابة . واقع جديد وفي موقف أقرب لأجواء الواقعية السحرية يخرج عبد الرحيم في أول يوم وصوله ليصيد علي شاطيء النيل ولكنه بدلا من أن يصيد سمكة يتعلق عصفورا بسنارته . يحاول العصفور أن يتخلص من السنارة فيجذبها لأعلي مندفعا، بينما يتشبث عبد الرحيم بسنارته الطائرة وهويجري ممسكا بها بكل قوته ودهشته . وسرعان ما تتحول حالة المرح الساخر التي تصيبه ومن حوله إلي واقع مأساوي عبثي وكئيب حين يتسبب هذا الحادث في إلقاء القبض عليه وما يناله من تعذيب . ولكن هذا الموقف أيضا هوالذي سوف يلفت نظر الجارة بسيمة إليه لتتولد شرارة الحب سريعا بينهما والتي ستخبو سريعا أيضا . وسوف تتوالي علاقاته النسائية ولكن تظل بسيمة في القلب . وستظل أصوله الريفية الخشنة عائقا أمامه في قبول الواقع الجديد بصراعاته ونسائه . وسوف يعيش أزمات وانتكاسات بسبب اندفاعه الطائش وراء النساء وتمزقه الدائم بين جذوره وواقعه الجديد . وليظل الفيلم في سرده متابعا في أحد خطوطه الأساسية لرحلة هذا الشاب وطموحه إلي الحرية والمتعة والسعادة وحب النساء وهبوطه من جديد إلي إحباطات الواقع وقيوده وشروطه . ولكن الفيلم لن يكتفي بحكايات عبد الرحيم فهو سيهمله كثيرا ليستطرد في سرد الكثير عن شخصيات من حوله وخاصة حكاية شقيقته نرجس التي تعيش في قلق دائم من ظلمة القبر وزوجها البهي أفندي الذي أنهت الحكومة طموحاته البسيطة بإحالته للمعاش المبكر، وتفشل شكاواه اللانهائية في إعادته للعمل . كما نتعرف متأخرا علي أم عبد الرحيم أيضا التي تلحق بابنها في القاهرة للعلاج فتبدو كنبات انتزع من جذوره ويهفو بشدة للعودة إلي أرضه. هذا فضلا عن حكايات النساء الأربع اللاتي سيرتبط بهن عبد الرحيم تباعا .. حكايات جذابة ومسلية وتعبر عن عبثية الواقع وانعدام التواصل بين البشر والحياة وتنعكس ظلالها علي الخط الرئيسي وتبرزه ولكنها قد تمتد لمساحات زمنية أحيانا تطغي علي إيقاع الفيلم نوعا ما وتسبب حالة من التشتت . ويسهم في هذا أيضا جرأة المخرج المفرطة في الاحتفاظ بمشاهد تخرج بالشخصيات عن واقعها ومصداقيتها ودورها في الدراما مثل تمثيل البهي البوسطجي الفقير محدود التعليم بلا تمهيد ولا تأسيس لمشهد الكينونة لهاملت شكسبير وباللغة الإنجليزية.هذا فضلا عن بعض اللقطات الزائدة والمبهمة التي كان ينبغي للمونتير أن يحذفها. من التحديد للتجريد ويتمادي السيناريو مع هذه الحكايات لينتقل لجيل أبناء البهي في عجالة تخلو من التعمق وتخرج عن الأسلوب البنائي للمواقف الدرامية القوية ذات الدلالات التعبيرية الموحية . وتتحول بعض المشاهد إلي صيغ خبرية ومعلوماتية لنعلم أن أحد الابناء ينتمي لليسار والآخر للتيار اليميني المتطرف، مع بعض مشاهد تعكس سيطرة الرجعيين والمتشددين علي الأهالي في إمبابة وتدخلهم في حياتهم الشخصية بشكل سافر وعنيف . وتتوالي الأزمنة بشكل حاد وتجريدي وفي إشارات مقتضبة للخلفية السياسية والاجتماعية ولكنها تبدو في حاجة إلي مذكرة تفسيرية لإيضاحها . كما أنها تخرج عن أسلوبية العمل المتأملة وبقدرته علي التعبير عما هو عام بالإخلاص لكل ما هو خاص . ولكن عندما يعود الفيلم قرب نهايته إلي أجوائه التعبيرية يسترد عافيته . وفي مشهد بالغ الدلالة تبدأ أم عبد الرحيم العجوز والمريضة رحلة عودتها رافضة العيش في المدينة علي أمل ضعيف في الشفاء ومفضلة الموت في قريتها . وعلي مستوي اللغة السينمائية تتحقق للفيلم رؤية بصرية موحدة وذات أسلوبية خاصة يحققها مجدي أحمد علي في أرقي أفلامه فنيا وأكثرها جرأة علي مستوي السرد وخيال الصورة دون أن تفقد العمل وحدته . فالفيلم بوجه عام لا يخرج عن نطاق شريحة اجتماعية ذات انتماءات واحدة وهوما ينعكس علي الشكل العام للملابس والديكورات والإكسسوارات والأبنية وحتي أسلوب الماكياج . وتكشف الخطة الضوئية واللونية للفيلم بوجه عام عن سيطرة رمسيس مرزوق علي الأزرق والاسود واستغلاله لأجواء السيناريو وطبيعة المكان للتعبير عن هؤلاء البشر الذين يعيشون في أجواء شبه مظلمة علي المستوي النفسي والواقعي أيضا مع انقطاع الكهرباء باستمرار، ليعتمدوا كسابق عهدهم في الريف علي مصابيح الجاز وكأن المدينة لم تنقلهم حتي ولو إلي واقع مضيء ولوعلي مستوي الشكل وإنما ألقت بهم إلي مزيد من الظلمة . براعة التمثيل تبدو الشخصيات بوجه عام بخطوطها العريضة وتفاصيلها المحددة بالغة التعبير والإيحاء مما يضيف لمضمون القصة ودلالاتها الرمزية . كما يسهم الأداء التمثيلي الطبيعي والمنضبط في صبغ الفيلم بروح واحدة في حالة نادرة في أفلامنا يبدو فيها دور المخرج ظاهرا في توحيد وتنسيق الأداء حركيا وصوتيا وانفعاليا بأسلوبية واحدة . يبرز بالتأكيد فتحي عبد الوهاب بأدائه المتمكن وإحساسه العميق بخصوصية شخصية عبد الرحيم والشريحة المحددة التي ينتمي لها وكذلك في المواقف والتقلبات النفسية والحياتية التي يعيشها والتي تدمر من ذاته وتستهلك عمره دون أن تتمكن من تغييره . يؤدي فتحي الشخصية بمهارة ويكسر المخرج باختياره شكليا النمط التقليدي للفحل الريفي المتعطش لفتيات العاصمة . فهو شاب لا تعبر ملامحه ولا تكوينه الجسماني عن الفحولة بقدر ما تعبر عن الرقة والضعف . كما أنه من حيث الشكل يظهر من البداية كإنسان عليل أوضعيف البنية أصلا وبذلك فإن إصابته بالمرض لا تحقق تحولا كبيرا في مظهره فيتزايد العبء علي الممثل لتحقيق التأثير المطلوب . وينجح فتحي في هذا الاختبار الصعب بتصميمه وتصميم مخرجه علي أن يعتمد علي الأداء الطبيعي دون الجنوح للأكليشيهات المعتادة ..تقدم عبير صبري أيضا واحدا من أفضل أدوارها إن لم يكن أفضلها علي الإطلاق . وتنجح في مشاهدها المحدودة في أن تحقق الحضور القوي المطلوب للشخصية . أما دلال عبد العزيز فتصل إلي ذروة جديدة من النضج بعد ما حققته من مستوي راق في الأداء مع نفس المخرح بفيلمهما (أسرار البنات) . الفيلم في رأيي خطوة متقدمة لمجدي أحمد علي ومحاولة جريئة للسينما المصرية عموما في انتهاج أساليب حداثية عن وعي وفهم سليم لكيفية توظيفها ولطبيعة الموضوعات التي تستحقها . وربما يأتي تميز هذه التجربة لاعتمادها علي نص أدبي عميق المغزي وثري بالمواقف والشخصيات المرسومة بعناية، وأيضا لجرأة المخرج الشديدة التي اكتسبها من تجربته السابقة في (خلطة فوزية) رغم تحفظاتي عليها، لكنه تدرب خلالها علي استخدام أساليب متطورة في السرد وعلي توظيف متميز ومعبر لمختلف العناصر السينمائية .