بقلم :زين العابدين خيري كنت في الصف الثالث أو الرابع الابتدائي حين تفاجأت بأن مجلة ماجد الإماراتية الشهيرة التي عودني أبي رحمه الله- علي قراءتها مبكرا قد نشرت لي قصة باسمي, كانت مفاجأة عظيمة بالنسبة لي في ذلك الوقت في أوائل ثمانينيات القرن العشرين. لا أتذكر الآن ما مضمون القصة تحديدا, ولكني أتذكر جيدا فرحتي بأن أري اسمي منشورا علي قصة مطبوعة في مجلة واسعة الانتشار كمجلة ماجد الحبيبة, وسر المفاجأة الأكبر أنني لم أكن أرسلت لهم هذه القصة, بل كتبتها وغيرها من قصص وألغاز تحاكي ما أقرأه في سلسلة المغامرون الخمسة, وكل ما كنت أفعله أنني أعطيها لأبي ليقرأها فيكتفي بكلمتي ثناء لم ترضيا أبدا غروري الذي صور لي أنني أكتب أشياء مهمة. قبلها أو بعدها لا أتذكر تحديدا- وصلني من المجلة مظروف كبير يحمل شعارها المحبب, وقد دون عليه اسمي كمرسل إليه, وقد احتوي عددا من الأوراق أهمها علي الإطلاق كان بطاقة صحفية تحمل اسمي وبأنني قد تم اختياري مندوبا صحفيا للمجلة في مدرستي. وبقية الأوراق كانت علي ما أتذكر ملصقات خاصة بالمجلة وتعليمات بخصوص العمل الذي أصبحت مكلفا بأدائه بحكم البطاقة الجديدة. لم أكن أيضا قد أرسلت للمجلة طلبا للانضمام إلي أسرة مندوبيها الصحفيين الصغار الذين يرسلون حواراتهم وتقاريرهم الصحفية البسيطة من مدارسهم المنتشرة في كل أرجاء الوطن العربي, ولكن أبي كان قد فعل ذلك حين اكتشف حبي للكتابة مبكرا حيث كنت كذلك عضوا في نادي هواة المراسلة التابع للمجلة, والذي وعن طريقه تعرفت علي عدد كبير من الأصدقاء العرب من المغرب وتونس وسلطنة عمان والأردن والسودان وظللت علي تواصل مع عدد منهم لسنوات. كنت أعتقد حينها, حيث كنت أتمتع بقدر عظيم من السذاجة في الفهم ربما يفوق سذاجة ما كنت أكتبه, أن والدي لا يهتم بما أكتب ولا يقدره بشكل كاف, وكان هذا الاعتقاد يحبطني بشدة فأتوقف لأيام وربما لشهور عن الكتابة مكتفيا بالقراءة والاهتمام بهوايات أخري كالرسم مثلا أو لعب رياضاتي المفضلة وكانت كثيرة ككرة القدم وتنس الطاولة والكونغ فو وغيرها وحتي لعب البلي في الشارع. وحين كان يراني أبي وقد توقفت عن الكتابة يحضر لي مجموعة جديدة من كتب ومجلات الأطفال, وكنت مفتونا حينها بمجلة العربي الصغير التي تصدر مع مجلة العربي الكويتية العريقة, كما كنت أعشق مجلة ميكي وإصداراتها المختلفة مثل ميكي جيب وسوبر ميكي, وكلها كان يحضرها لي أبي بنفسه, وفي الوقت ذاته كنت قد تجرأت علي مكتبة والدي وشد انتباهي بشكل خاص كتب العلوم والمصريات وقصص الأنبياء وكل ما يتحدث عن الفضاء والكواكب والنجوم. وكلما وجد أبي انجذابا مني للون معين من الكتب كان يزيدني منه بنسخ مكتوبة خصيصا للأطفال تبسط وتشرح المصطلحات العلمية الكبيرة. ظلت العلاقة هكذا لسنوات, اتسعت خلالها قراءاتي ورسوماتي علي حساب كتاباتي بفعل الإحباط الذي تخيلت أن أبي قد سببه لي بعدم ثنائه الكبير علي ما كنت أكتبه, في مقابل ثنائه الواضح علي ما أرسمه من بورتريهات له ولعدد من المفكرين والأدباء الكبار كنجيب محفوظ ويوسف إدريس ويحيي حقي وطه حسين وغيرهم, وكان أيضا يمدني بكل ما أحتاجه من أدوات مثل الاسكتشات أرسم عليها والألوان المائية وغيرها. وعلي الرغم من كل ذلك ومن كل ما كان يفعله أبي ظلت سذاجتي تقودني وتهيئ لي أنه يتجاهلني ويتجاهل مواهبي, لمجرد أنني لا أراه كثيرا أو لأنه بعيد نسبيا عن عالمي الضيق الصغير, حتي تكشفت لي مع مرور السنوات أمور كثيرة لم يكن عقلي الساذج يسمح لي وقتها بتبينها. لقد فعلها أبي دون أن يقول لي وأرسل هذه القصة إلي مجلة ماجد التي اكتشفت فيما بعد أنه كان لديه عدد من الأصدقاء يعملون بها ما بين كتاب ورسامين, لقد فعلها أبي وقدم لي طلبا بالانضمام إلي الفريق الصحفي للمجلة, لقد زودني منذ كنت في المهد بمئات الكتب والمجلات والمسرحيات والروايات التي تم تلخيصها للناشئين, لقد أمدني بكل ما كنت أحتاجه من أدوات للرسم والكتابة, لقد اشتري جيتارا للمحترفين لمجرد أنه لمح بداخلي حبا للموسيقي وكان مصيره الكسر بسبب إهمالي, لقد كتب بنفسه غلاف ديوان الشعر الوحيد الذي أصدرته حتي الآن حتت مني, وهو الديوان الذي أرسلته من ورائه إلي الناشر الصديق محمد هاشم معتقدا أنني بذلك لا أستغل اسمه. إنه أبي الذي وقبل كل هذه الأفعال التي لم أقدرها يوما خير تقديرها معتقدا أنه لا يقدر ما كنت أكتب كانت له طريقته الخاصة التي يثني علي بها دون أن يصيبني بغرور غير محمود ربما لم أكن لأشفي منه أبدا. إنه أبي الذي كان يعطي ويعطي ويعطي لي وللجميع من حوله دون أن ينبس ببنت شفة مكتفيا بلذة العطاء والتسامح فيمدح في ألد أعدائه لأن فيه ما يستحق المدح. إنه أبي الذي كنت ألمح في عينيه نظرة الفخر بنجاحي ونجاح إخوتي كما لمحت في عينيه قبل رحيله نظرة الرضا بما قدم في حياته. إنه أبي الذي وقبل كل هذه الأفعال- ولو لم يفعلها- رباني علي قيم الشرف والصدق وعدم التنازل عن المبادئ مهما كانت المغريات. إنه أبي الذي يكفيني فخرا أنه أبي ولو لم يترك لي غير تجربته الحياتية العظيمة كما تركها للبشرية كلها مدونة في رواياته وكتبه ومسرحياته ودراساته ومقالاته لاكتفيت بذلك زادا حتي الممات. إنه أبي الذي لم أشكره أبدا علي مجرد وجوده في حياتي ولم أقبل يديه كلما رأيته, فلم أكن نعم الابن كما كان هو نعم الأب, أرجوه أن يسامحني وأعلم يقينا أنه سيفعل- وأن يقبل قبل ذلك اسفي.