فى الكثير من الجرائم الإرهابية التى استهدفت المسلمين فى بعض البلدان الأوروبية، وانتشار ما يعرف بالاسلاموفوبيا أو الخوف من المسلمين دون مواجهة جادة، كانت أفكار اليمين الأوربى والأمريكى حول التفوق الغربى الأبيض موجودة بقوة فى قلب تلك الجرائم، ولكن سرعان ما كانت تتم التغطية عليها واعتبار مرتكبيها مجرد أفراد مهووسين أو معتوهين أو مرضى نفسيين، فعلوا فعلتهم بصورة منفردة، دون البحث بعمق فيما وراء هذه الجرائم من بواعث موجودة فى عمق المجتمع الأوربى والأمريكى ذاته. ومع حركة الحياة سرعان ما كانت تُنسى هذه الجرائم، كما تُنسى أيضا كيفية محاسبة هؤلاء المجرمين، والذين يتمتعون بالحياة حتى بعد أن قتلوا العديد من الأنفس البريئة. لكن عند الجماعات المتطرفة والمتعصبة، كان هؤلاء رموز يجب أن تحترم ويقتدى بها. وفى الجريمة الإرهابية التى جرت وقائعها فى مدينة كرايست تشيرش النيوزيلندية، يوم الجمعة الماضى، وحيث قتل إرهابى استرالى المصلين المسلمين فى أثناء صلاة الجمعة بدم بارد، تبدو الأمور أكثر من واضحة حول ما وصلت إليه حركات التفوق الأبيض من تطرف وعنف وكراهية بلا حدود، وتحولها إلى حركة ذات طبيعة عالمية وليست محدودة فى بلد أو أكثر قليلا. وفى تفاصيل تلك الجريمة المروعة تظهر عدة حقائق مجتمعة، فالجريمة تمت فى بلد يُعرف عنه الهدوء والتسامح وقبول المهاجرين واعتبارهم مواطنين لهم حقوق مواطنة كاملة، وهو اختيار يرسل رسالة بأن التعصب الأبيض يمتد عبر القارات جميعها، وأن معركته لا حدود لها وهدفها الأول هو القضاء على المسلمين. وثانيا فالشاب الإرهابى القاتل حرص على توثيق جريمته، مبتدئا بالقول: فلنبدأ الحفل، وبثها مباشرة على الفيس بوك لتأكيد قناعاته المريضة وحرصا على أن يكون رمزا بطلا وقدوة يتبعه آخرون من أمثاله. وثالثا، ففى العبارات التى كتبها على أسلحته تواريخ وأحداث صراعية تاريخية شهيرة بين الحضارتين الإسلامية والأوروبية الصليبية، خاصة حروب الدولة العثمانية وفتح العرب المسلمين للاندلس ثم هزيمة ممالكهم على أيدى قادة أوروبيين مسيحيين، ما يشير إلى أن هناك عملية تنشئة تتم بتدرج مستخدمة الوقائع التاريخية القديمة من أجل تثبيت فكرة الفصل بين الغرب والشرق، وبين الإسلام والمسيحية، وأن لا تعايش بينهما، وأن المواجهة الدائمة هى أساس العلاقة والتفاعل. وهى تقريبا الفكرة ذاتها التى تؤمن بها القاعدة لاسيما فى مراحلها الأولى. رابعا ونظرا لحداثة سن هذا الإرهابى وعدم نيله أى قسط من التعليم العالى، فمن الواضح أن هناك من ينظر لهذه الحالة من التعصب والتطرف، مستعينا بأسوأ اللحظات التاريخية باعتبارها هى الأساس الذى يجب أن يحكم العلاقة الراهنة بين جميع الشعوب والمجتمعات. وتدل بعض العبارات مثل: المهاجرين إلى الجحيم على أن هناك قناعة بأن المهاجرين لاسيما الملونون وغير المسيحيين، والذين قامت على أكتافهم مجتمعات وحضارات غربية، أبرزها الأمريكية، هم الذين يمثلون الخطر الأكبر على الجنس الأبيض المسيحى، ولا يستحقون سوى القتل. ولذا لم يكن غريبا فيما وصف بدليل العمل ذى ال 78 صفحة، والذى سبق أن نشره هذا الإرهابى على صفحته بالفيس بوك أن يشير إلى الرئيس ترامب باعتباره القدوة الأكبر فى رفض قدوم المهاجرين والنظر إليهم بازدراء. وهكذا يجتمع توظيف الأحداث التاريخية وأخرى جارية والمخاوف المصطنعة من المهاجرين لجذب مزيد من التأييد لتلك الأفكار المريضة. وكما يحدث دائما فى كل حركات التطرف حيث يتم التركيز على جذب صغار السن والجهلاء والذين لديهم استعداد للتطرف، لكى يكونوا أدوات بلا عقل يتم توظيفها لخلق وقائع على الأرض تُثبت أفكارهم وتُحيى آمالهم فى تحقيق تفوقهم وانفصالهم عن الأغيار، حسب عقيدتهم. لقد اثبتت هذه الجريمة الإرهابية المروعة، أن الدعوة الى تفوق العرق الابيض لم تعد مجرد دعوة سياسية تتردد أصداؤها فى أثناء السجالات الانتخابية فى عدد من دول اوروبا والولايات المتحدة، فمع تكرارها والتنظير لها ووصول بعض رموزها إلى البرلمانات والحكومات الاوروبية، تحولت إلى عقيدة وإيديولوجية لدى البعض، تتفرع عنها مجموعة من الأفكار التى تقوم على الفصل بين ما يعتبرونه أوروبا المتحضرة والقوية وبين غير الأوروبيين الهمجيين، وهو فصل يرونه خطوة أولى لاستعادة النقاء الأوربى والأرض الأوروبية الطاهرة مما لحق بها من طفيليات فى صورة مهاجرين أو لاجئين لا تستحق من وجهة نظرها العيش أو أن تطأ أقدامهم أرضهم الأصلية. مبادئ النقاء الذاتى والتفوق الحضارى وكراهية الغير هى الجوهر الاساس للعنصرية والاستعلاء والتطرف والإرهاب، وهى الأساس الذى يلجأ إليه اليمين والشعوبيون والنرجسيون المرضى فى كل المجتمعات وصولا إلى مرحلة التطهير والتطهر، أى التخلص من غير المكروهين والغرباء أولا، والحفاظ على النقاء الذاتى ثانيا حسب تصورهم. هذه النتائج لا تحدث مصادفة ولا تظهر لدى فرد أو جماعة بصورة فجائية، وانما هى نتيجة طبيعية لتراكمات من الأحداث والأفكار والتصورات التى تؤدى فى النهاية الى تشكل مجموعات بعضها عابر للحدود وبعضها الآخر محلى، وكلاهما يغذى الآخر بواسطة وسائل الاتصال الحديثة وما يعرف بالسوشيال ميديا التى لا تعرف القيود ولا الأخلاق ولا المبادئ الإنسانية، فقط السعى الى الربح المادى وحسب. الإرهاب الأبيض لا يختلف عن غيره من جماعات الإرهاب والتطرف الفكرى، فكلاهما من منبع واحد. مشكلة المجتمعات الاوروبية والولايات المتحدة أنها تتصور أن الحرية لا سقف لها، وأنها تتيح الحق فى ازدراء الغير بما فى ذلك تاريخهم ونمط حياتهم وعقائدهم ورموزهم الدينية والسياسية دون أدنى حساب ودون أدنى مراجعة. فى مثل هذا المناخ الخالى من الضوابط الأخلاقية والقيمية يصبح الانخراط فى جماعات متطرفة مجرد اجتهاد، وتصبح المشاركة فى حركة إرهابية بعيدة عن الأرض الاوروبية مجرد حدث عابر لا يستحق المحاسبة، وتصبح الجرائم التى تستهدف الغير أيا كانوا مجرد أحداث عابرة، تستحق التعاطف العابر ولكنها لا تلزم بتغيير النهج ومواجهة حركات التعصب وأسسها الفكرية والايديولوجية. وإذا لم يفق الغرب من غفلته، ولم يبدأ بحركة تطهير فكرى وسياسى ذاتى، فلن يكون بعيدا خوض حروب دينية عالمية كالتى حدثت قبل عشرة قرون. لمزيد من مقالات د. حسن أبوطالب