تحكى الأسطورة اليابانية أنه كان على الشاب الضعيف البنية ان يواجه الساموراى الرهيب، وفى الليلة الحاسمة تقدم الشاب ومعه سيف واحد قصير لمواجهة الساموراى المسلح بسيفين، وكان على الشاب الصغير الصمود والمقاومة حتى أرغم الساموراى على التراجع!. صاحب هذه الحكاية هو المخضرم العجوز محمود فوزى أبو الدبلوماسية المصرية، والشاب النحيل هو مصر بإمكاناتها الضعيفة التى لا تملك إلا الإصرار والعزيمة قبل حرب أكتوبر1973. والساموراى الرهيب هو العدو، إسرائيل ومن خلفها أمريكا بكل قوتها وترساناتها، وكان على مصر ان تستخدم هذا السيف الوحيد لاستعادة وجودها بعد أن فقدت سيفها الطويل فى 1967 لتحقيق أهدافها وخلق توازن عسكرى جديد يفرض على اسرائيل التفاعل مع المطلب المصرى بتحقيق الانسحاب الكامل من سيناء!. والمناسبة كانت اجتماع لجنة مصغرة لهيئة الأمن القومى نهاية سبتمبر قبل اندلاع حرب اكتوبر 73 بأيام، كان الاجتماع يضم الرئيس السادات ومستشاره المخضرم حافظ إسماعيل ومصطفى خليل وممدوح سالم وأحمد اسماعيل علي، وبصرف النظر عما دار فى الاجتماع من نقاشات ومكاشفات كانت سبب النصر الذى تحقق لكن وراءه مجموعات عمل وسرايا لا تنام فى إدارة الأمن القومى المصرى يقودها المستشار حافظ اسماعيل!. والحكاية أوردها السيد أحمد أبو الغيط فى كتابه شاهد على الحرب والسلام يقول: إن المستشار كان على قناعة تامة بأن حرب استرداد السيف والأرض لا تبدأ عندما تنطلق المدافع، بل لابد أن يسبقها إعداد سابق ومتنوع، يدخل فيها العمل السرى الصامت بهدف اكتشاف نوايا العدو وقدراته ومنعه من كشف أسرارنا، أو الاستفادة مما لديه من ميزات قبل اندلاع المعارك وأثنائها وحتى بعد أن يسكت الرصاص!. أعادتنى شهادة السيد أبو الغيط إلى نقطة التوازن بفضل ما فيه من اعترافات وحقائق وأسرار تؤكد أن المعارك التى بدأت وانتهت فى ميادين القتال العسكرية كانت مجرد مرحلة فى صراع طويل هدفه السيطرة على مقدرات المنطقة، ومنع مصر من استخدام قدرتها، لكن الأهم فى الشهادة أنها أعادت الاعتبار للفرق المصرية التى عملت خلف خطوط النار، منها ما سماها السرية الصامتة فى الأمن القومى وقائدها السيد حافظ إسماعيل الذى يمر هذا العام مائة سنة على ميلاده، وكأنه أحد نتائج الثورة الشعبية فى 1919 نحو التمدين والاستقلال الوطني!. أهمية شهادة السيد أحمد أبو الغيط أنه لم يقل كلمته ويمضى، لكنها صدرت فى 2013، كانت فيه مصر والمنطقة مشغولة بشكل آخر من نفس الحرب وإن بدت مختلفة عن الحرب العسكرية النظامية لكن غايتهما واحدة، ورغم قيام ثورة 25 يناير وإزاحة نظام الرئيس حسنى مبارك الذى كان فيه السيد أبو الغيط وزيرا للخارجية لكن بمجرد ترتيب الأوراق على جبهة مصر أعيد السيد أبو الغيط إلى قمة الدبلوماسية العربية، فالحرب لم تنته!. شهادة حافلة بالمواقف وكاشفة لأسرار منها إعادة الاعتبار للرجل الذى فصلت له وظيفة مستشار الأمن القومى المصرى عام 1971 حتى نهاية حرب أكتوبر 1973، أعاد ترتيب وزارة الخارجية وشغل مناصب سفير مصر فى لندن وروما وموسكو ورأس المخابرات العامة وفى النهاية عاد إلى فرنسا سفيرا حتى أحيل إلى التقاعد عام 1979 عقب توقيع اتفاقات كامب ديفيد، وانتهى دور حافظ إسماعيل بانتهاء الحرب العسكرية وانقطعت بعده وظيفة مستشار الأمن القومى حتى أحياها الرئيس السيسى عام 2014حين شغلتها السفيرة القديرة فايزة أبو النجا!. وبطل شهادة أبو الغيط الحقيقى فى سنوات الحرب هو الإنسان المصرى حافظ اسماعيل الذى نجحت سريته فى رصد تحركات العدو وتجميع المعلومات ومقاومة وإجهاض محاولاته للتجسس لكن نجاحه الحقيقى كان فى اختيار مساعديه ومرءوسيه الذين صاروا وزراء منهم عصمت عبد المجيد وعمرو موسى وأحمد ماهر ،وأخيرا صاحب الشهادة أحمد أبو الغيط أمين عام جامعة الدول العربية، وكان من أعضاء السرية الصامتة أيضا وفاروق بركة وإيهاب وهبة وأحمد عادل.. والدكتور أسامة الباز فى الخارجية!. يبقى تحية واجبة لصاحب الشهادة عن السلام، الذى بكى صباح السبت 19نوفمبر 1977 وهو يتابع هبوط طائرة الرئيس السادات فى مطار اللد، وحين نظر طفله الصغير إلى دموعه قال له: أنت بتعيط يا بابا.. عشان اتغلبنا، وتبين لى أن المؤلف كان يبكى لأنه لم يهضم خطوة الرئيس السادات كما لم يهضمها قبله الوزراء اسماعيل فهمى ومحمد رياض ثم إبراهيم كامل، فقد نجحت مصر بإمكاناتها البسيطة من استرداد أرضها!. وسؤالي: بعد أن ظن الغرب أن الحروب والمواجهة مع إسرائيل محفز رئيسى لمصر لتعزيز دورها الإقليمي، وسعوا لإخراجها من محيطها العربى والإفريقى حتى اختفت صورة عبد الناصر وحلت صورة نيتانياهو بين الرؤساء الأفارقة، فبماذا ينصح السيد الأمين العام الآن وقد عادت مصر وصارت رئيسا للاتحاد الإفريقى؟. لمزيد من مقالات أنور عبد اللطيف