رغم عبثية ومأساوية كارثة انطلاق القاطرة واندفاعها صوب رصيف مزدحم بالركاب والعاملين والباعة فى محطة مصر وكأنها قررت الانتحار فجأة، وربما بدافع من القهر والغيظ قررت أن تأخذ فى طريقها الغلابة الذين ألقاهم حظهم العاثر فى طريقها لتريحهم من عناء رحلات مضنية لا تنتهى لتنقلهم برحلة أخيرة إلى ملكوت أرحب وأرحم!!، إلا أنها أشبه بجرس إنذار أخير، إما أن ننتبه له ونتوقف أمام كل ذبذبة فيه ونتحرك صوب تعديل منظومة كاملة قوتها وفاعليتها يكمنان فى الإنسان أو نتجمد كتماثيل فى انتظار كارثة أو حادثة، بطلها قطار أو توك توك، لنترقب اللحظة التى ستطولنا فيها فنصبح رقما جديدا فى قائمة الضحايا، ونمضى تاركين وراءنا المحرض ومرتكب الجريمة الأصلى يرتع ويستمتع بالعيش تحت سماء، وعلى ارض لحظتها لن تكون لنا ولن نكون إلا بعضا من ثراها!! وبغض النظر عن كل ما يتم تداوله على صفحات التواصل الاجتماعى وعلامات الاستفهام التى أثارتها الفيديوهات التى التقطت لحظة وقوع الارتطام واندلاع ألسنة اللهب ومحاولات الضحايا الذين أمسكت بهم والمواطنين الذين يسعون حثيثا صوبهم للهروب منها، وحديث سائق القاطرة واعتذاره المستفز وكأنه ارتطم عفوا بكتف عابر أو «داس» على إصبعه بطريق الخطأ!!، والاستنتاجات الأكثر استفزازا التى خرجت علينا بها بعض المواقع والفضائيات، فلقد سلطت الكارثة الضوء على معامل فى غاية الأهمية أظن أن علينا جميعا وخاصة المسئولين عن اتخاذ القرار وتنفيذ السياسات آخذة فى الاعتبار، واعنى به الإنسان المصرى.. فرغم طوابير المتبرعين بالدم أمام المستشفيات وشهامة «ولاد البلد» التى دفعت وليد مُرضى وزميليه والباعة فى محطة مصر للمخاطرة بحياتهم لإنقاذ الناس ليعيدوا للذاكرة صورة المصرى الأصيل الذى تتجلى مروءته وشجاعته فى الشدائد، إلا أن الصور الذاتية والفيديوهات المنقولة من مكان الحادث واستظراف البعض ممن أصيبوا ببلادة الحس فلم يدركوا الفرق بين كارثة حريق يتطلب العون أوعلى الأقل إخلاء الطرق لإنقاذ الضحايا وبين التقاط صور تذكارية فى حفل أو تجمع أصدقاء، أو من تابعوا الضحايا بكاميراتهم وتكاسلوا عن مساعدتهم فى سبيل شريط فيديو حلما بعائد مادى من وسيلة إعلام !! والتعليقات التى تم تداولها على وسائل الاتصال الاجتماعى والفضائيات، كلها تشى بأن منظومة القيم التى حركت «مرضى» والعمال البسطاء لإنقاذ الضحايا بأبسط الإمكانيات ومنعتهم من الهروب وجعلت ألاف المصريين يهرعون للمستشفيات للتبرع بالدم وتقديم العون للضحايا، وان كانت لا تزال كامنة فى نفوس عموم المصريين، إلا أنها باتت مهددةّ وتحتاج لتدخل سريع لإنقاذها قبل أن تزوى تحت وطأة هموم الحياة ومتغيرات وتقاليع عصر تكرس للامبالاة وتتبنى مقولة «أنا ومن بعدى الطوفان»، باعتبار أن منظومة القيم التى حكمت سلوكياتنا لقرون من مخلفات العصر الحجرى!! الملحوظة الثانية أن الحادثة التى أرقت عموم المصريين كشفت أننا فى سعينا لملاحقة تداعيات المشكلات المتراكمة فى القطاعات المختلفة وعمليات الإحلال والتبديل بدءا من مناهج التعليم وصولا للأجهزة والمركبات وخلافه، لم نول اهتماما بتأهيل العنصر البشرى سواء من حيث تعليمه أولويات الإسعافات الأولية أو التعامل مع الحوادث والأزمات المفاجئة، وهو ما تجلى فى هرولة الضحايا ومحاولات إنقاذهم بسكب المياه!!، أومن حيث الالتزام وإتقان العمل ومتابعة كل منا لعمله ذاتيا دون انتظار لرقابة وتعليمات غالبا لا علاقة لها بما يدور خارج جدران المكاتب!! ... ومع كل تقديرى لكل الإجراءات التى تمت وسيتم اتخاذها وكل التعاقدات لاستجلاب معدات حديثة أظن أن مواجهة مشكلاتنا التى باتت أشبه بقنابل موقوتة لابد أن تبدأ باستعادة المواطن المصرى ذاته ومنظومة قيم تعيد احترام العمل والرقابة الذاتية من خلال ممارسات يومية تعفينا من سرادقات المزايدات والتحركات العشوائية اللحظية.. فاستعادة المواطن المصرى، منظومة وهدف علينا جميعا السعى لتحقيقهما، علنا نتخلص من بلادة شيعت ضمائر البعض وتتربص بالباقى منا.. لمزيد من مقالات سناء صليحة