عندما يتجه المصريون الى ثورة 1919 فإنهم يتوجهون إلى الحدث الاكبر فى مسار تاريخهم الحديث، وإلى الحدث، الذى حدد الى حد كبير مسارهم تجاه بناء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة بالرغم من كل صعوبات إنجازها فى الماضى وفى الحاضر. والحدث الاكبر الذى نسميه ثورة هو الحدث الذى يحدث التغيير الاكبر فى العلاقات الاجتماعية والسياسية لكل دولة. وبالنسبة لثورة 1919 فإن هذا الحدث الاكبر كان فى رفع شعارى المصريين اللذين التف حولهما الثوار من كل شرائح الجماهير قبل أن تلتف حولهما قيادتهم، الاستقلال والدستور. ........................... طالبوا بالاستقلال عن بريطانيا العظمى كما طالبوا بالدستور لتحديد العلاقات بين الحاكم والمحكوم. ولكن وفى الوقت نفسه كانت الاتجاهات المتباينة الأكثر حداثة تتفاعل فى المياه السياسية الجارية. من هذه الاتجاهات كان الانقسام حول الجامعة المصرية او الهوية المصرية فى مواجهة الخلافة. والاتجاه الآخر كان حول ضرورة بناء اقتصاد مصرى خالص. بجانب اتجاهات مهمة اخرى تخص المرأة وحقوقها والعمال ونقاباتهم وظروف عملهم وأخرى تخص الفلاحين وتعاونياتهم. وفى المسار الذى حفرته هذه الثورة الفتية برزت المهمة الاولى للشعب المصرى فى نضاله الوطنى، وهى بناء هذه الدولة الوطنية الديمقراطية التى نطلق عليها فى وقتنا الحالى الدولة الحديثة التى تؤسس على المواطنة والقانون والمؤسسات واستقلالها. الدولة التى تعترف بحقوق الجميع سواء كانت حقوقا اقتصادية او اجتماعية او سياسية. وقد برزت ملامح هذه المهمة غير السهلة فى امور تشابكت مع بعضها البعض لتنتج استنهاضة عامة عبرت بدقة عن طبيعة قيادة الثورة وعمومية المشاركة الشعبية غير المنظمة لها. كما عبرت وقائع الثورة عن التركيبة الطبقية المصرية غير المتبلورة فى ذلك الوقت. وإن كان من الصعب ان نحدد التكوينات الاجتماعية بالطبقات إلا اننا نلمح ملامحها فى المطالب. ونجد شريحة كبار ملاك الأرض الزراعية وعلى مقربة منهم طبقة كبيرة من الفلاحين غير المنظمين وغير المستمتعين بأى حقوق. ثم شريحة من الملاك المستثمرين الاجانب يوظفون اموالهم فى الصناعات الخفيفة «كمعامل الدخان. والخدمات كشركات غاز الاستصباح والمياه والترام وعدد من المحالج» وبجانبهم شريحة عمالية عير منظمة فى نقابات وبلا حقوق عمل. وتبرز معهم مجموعة من المفكرين المصريين الهادفين الى تحقيق رؤيتهم الاقتصادية التى تمكن مصر من التحول الى الاستقلال الاقتصادى يملكون وثيقة وضعوها عام 1917 فيما سموها وثيقة لجنة الصناعة. وغيرهم من المثقفين الساعين لبناء حركة تعاونية زراعية بالإضافة إلى آخرين ووقفوا بجانب العمال ليساعدوهم فى بناء نقابات عمالية. بجانب تلك الشرائح وجدت طبقة وسطى من موظفى الجهاز الادارى والطلبة ومتوسطى ملاك الارض والتجار. كان على هذه التركيبة الطبقية التى كانت فى طور التبلور ان تأخذ بمسار الثورة الرافعة لشعارى الاستقلال والدستور الى الهدف الأرقى وهو تأسيس الدولة الوطنية الديمقراطية أو وضع ملامحها العامة فى ظل استعمار لا تزال اصابعه تتحرك فى امور البلاد، وملكية ترفض ان تنتزع منها سلطاتها، وساحة سياسية تتنازعها احزاب شغلها الشاغل عدم وصول حزب الاغلبية «الطبقة الوسطى» الى الحكم. بجانب ذلك وجدت جماهير من العمال والفلاحين محرومين بالقانون وبالواقع من تأسيس منظماتهم السياسية والنقابية والتعاونية. وفى البداية، اود أن اشير الى ان شرط بناء الدولة الوطنية الديمقراطية هو الديمقراطية ذاتها التى تؤسس على ضمان الدولة، بالقانون، والعمل السياسى الحقوق والحريات العامة والخاصة وتحميها، وتحديدا حرية الرأى والتنظيم والحركة، لكل المواطنين على قدم المساواة بغض النظر عن فروق الجنس والعرق والدين والانتماء السياسى أو الانتماء الاجتماعى. وهو شرط لم يتوافر فى الفترة ما بعد الثورة. الذى توافر كان مجموعة من الحريات العامة والخاصة وخاصة حرية الرأى فى اطار مجتمع يميز بالقانون وبالقضاء، غير المصريين فى العديد من الحقوق. كما يميز الطبقات المالكة لأدوات الانتاج وحرمان الطبقات غير المالكة لهذه الادوات من حق التنظيم والحركة. فحرية الرأى والتنظيم والحركة استمرت محاصرة حتى الطبقة الوسطى والوسطى الصغيرة، اما طبقتا العمال والفلاحين فاستمرتا طبقتين تعيشان خارج منظومة هذه الحالة الديمقراطية المنقوصة. لذا لا أعتبر الفترة التى عاشت فيها مصر منذ ما بعد الثورة وصدور دستور 23 فترة ليبرالية بالمعنى الدقيق المتعارف عليه سياسيا. وإنما هى فترة تضمن بعض الحريات العامة والخاصة فى حين تحرم طبقات اجتماعية كاملة من حرية التنظيم والحركة التى هى من اساسيات الحريات السياسية التى تصيغ التطور الديمقراطى فى اى مجتمع. فى هذا المناخ المعقد وغير المتبلورة فيه طبقاته الاجتماعية بشكل كامل نمت شريحة ما نسميها الصفوة المدنية التى تحتضن الافكار المستقبلية والتى تتقدم دائما الصفوف متحدثة عن طموحات الشعب المصرى. ولكن فى ظل هذا المناخ العام فتحت ثورة 1919 الباب واسعا امام تأسيس قيمة المواطنة بين المسلمين والاقباط دون أن تسيدها بمفهومها الكامل فى مجال المرأة او الطبقات ال عاملة غير المنظمة او حتى سكان المناطق المهمشة جغرافيا ودون ان تزرعها فى عمق الثقافة المصرية الشعبية، مما ادى فى النهاية الى تآكل هذه القيمة العظيمة امام التحرك العنصرى لأى تيار متطرف، وحتى بتنا كمصريين لا نزال نتغنى بالمواطنة كما سجلتها ثورة 1919 فى شعاريها العظيمين «عاش الهلال مع الصليب» ثم «الدين لله والوطن للجميع» ونعود سريعا الى الشعارين فى كل ازمة تمس المواطنة ونرفعهما دون اضافة الجديد إليهما. وإذا كنا نحاول فهم ظروف ونتائج وآثار ثورة 1919 من منظور مائة عام بعد اندلاعها فإننا نسعى إلى فهم ذلك الطريق الذى مهدته امام المصريين كشعب استوعب مرحلة بدايات حركة التحرر الوطنى، وبدأها قبل عشرات المستعمرات التى كانت تخضع للاستعمار العسكرى المباشر بداية من القرن التاسع عشر واستمر حتى ما بعد الحرب العالمية الأولى. وهو وضع انفردت به مصر واستمرت تناضل من اجل الخلاص منه طوال العقدين الثلاثينى والاربعينى «بالرغم من عقد اتفاقية 1936»، حتى تم توقيع اتفاقية الجلاء عام 1954 ثم الجلاء عن منطقة القناة فى شهر يونيو عام 1956. ويمكن القول ان قضية التحرر الوطنى «الاستقلال» سارت فى خطوات مع القضية السياسية الداخلية «قضية الدستور والديمقراطية» وهى سمة من سمات حركات التحرر الوطنى التى اكتسبت زخمها بعد الحرب العالمية الثانية. وذلك غض النظر عن النتائج العامة التى وصلت اليها بعد فشلها فى حل القضية الديمقراطية ثم بعد استدراجها إلى مرحلة النمو الرأسمالية العالمية الحالية. وفى حالتنا المصرية نستطيع إلى ان نلمح أن النظام الملكى الطبقى غير الديمقراطى الذى استمر طوال سنوات ما بعد عام 1919 شهد صعودا غير مسبوق فى نمو الحركة الوطنية المصرية التى تميزت بخصوصية بروز الطلاب والشباب ومعهم العمال فى العقد الاربعينى وتحديدا فى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.. وفى هذه المرحلة تحديدا تعالت الاصوات التى تسعى الى تحقيق البعض من العدالة الاجتماعية والتى اتخذت مطالب بتحديد الملكية الزراعية والاعتراف المنقوص للعمال فى تنظيم نقاباتهم وإقرار علاوة غلاء المعيشة للموظفين. ربما اعتبرنا هذه المكاسب الآن مطالب هامشية لا تدخل فى صلب التغيير الاجتماعى ولكنها كانت تعبر حينذاك عن بدايات نمو قوى اجتماعية على حساب تآكل قوى قديمة كانت مسيطرة. وربما كانت البدايات التى قادت الى إزاحة كبار ملاك الارض والرأسماليين عن التأثير فى الحكم امام سيادة الطبقة الوسطى وانفرادها بالحكم بعد عام 1952 مع استمرار السعى الى الطريق السليم الى الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة.