بهذا العنوان الشاعريّ: وَرْد الجليد, الذى يكثف معنى استمرار تألق الوجدان رغم الشيخوخة, صدرت عن دار مجاز للترجمة والنشر المجموعة القصصية الثامنة للأديب المبدع أحمد الخميسي, حاملة فى كثير من قصصها هاجس المشيب وهمَّه, وفى نفس الوقت أفراحه, كفرحة الجد بالحفيد مثلاً, التى نراها فى قصة «فرحة صغيرة». وفى قصة «غداً» يحكى الخميسى عن جمرة روح تتوهج رغم الزمن, أو بالأصح عن تشبث العجوز بما تبقَّى من ألق الوجدان, وتَعَلُّلهِ بالغد أن تشرق شمسه وما زالت فى البدن والروح بقية تستجيب للجمال كتفتُّح زهرة العبّاد فى حضرة الشمس. أما فى قصة «تحَرُّش» فيرسم لنا الخميسى عجوزاً يسعده زمانه, أو القليل المتبقى منه, بأن يجلس فى حافلة مزدحمة بجوار شابة جميلة. والقصة كلها مونولوج داخلى فى باطن الشيخ المتحفظ المحترم يتحرش فيه وجدانياً بمنتهى الجبن والوقار- بالجمال الجالس على بعد سنتيمترات منه. وهو تحرُّش عكسي, بمعنى أنه احتلال للحضور الأنثوى الفتيّ لكل تفكير وانتباه الشيخ الفانى المجاور له, الخائف المرتعب من أن تحدث أى هزة ينتج عنها لمسة غير مقصودة فتحتج الفتاة وتتهم العجوز المسكين بأنه يتحرش بها. وحين تقوم الفتاة لتنزل فى محطتها, يحتج الشيخ صامتاً على أن الفتاة تركته فى برد الوحدة والشيخوخة, فلم تنتبه لأوجاع أمراضه الكثيرة ولم تقل له: سلامتك. ما بك؟. وفى قصة «الغريب», ينضم القروى العجوز لعصبة من أهل قريته تطارد فى الليل شبحاً لغريب متهم بأنه تسلل بين البيوت والزرائب والغيطان ليسرق شيئاً ما. فى تلك الليلة المعتمة يتخلف الشيخ المتعب, لبطء جسده, عن باقى العصبة المطاردة, فيقع فى فخ الظلام ويصير هو الغريب فى أعين الأهل المطاردين للشبح الذى لا يبين, فيموت برصاصهم. وكأن الشيخوخة بين الفتيان الأصحاء نوع من الغربة! أما فى قصة «عَلَى ربوة», فيتناول أحمد الخميسى فكرة الزمن حين يكون مروره مرادفاً لفوات الأوان؛ فحكمة الشيخوخة تتحصّل بعد أن رحل الأحباء الذين كان سيسعدهم فهْمُنا لهم وبالتالى تعاطُفنا معهم؛ وذلك الحنان الذى كانوا يطلبونه منا صامتين حين بلغوا الشيخوخة قبلنا, لكننا لم نقرأ رسائلهم, إلا حين صرنا مثلهم نرسل فى صمت, لأبنائنا الذين شبُّوا وبلغوا جاهلية العنفوان, نفس الرسائل. وفى القصة الساخرة- الأولى فى المجموعة- «غلطة لسان», نرى كيف أبدع الزهايمر فى رأس أديب كبير السن والمقام, كيف أبدع وخلق من العدم كاتباً كبيراً غير موجود فى الواقع! وذلك حين سأله محرر أدبى فى آخر حوار صحفى معه مات بعده بساعات, عن الكاتب الذى يعجبه بين الأجيال التالية فقال: فلان الفلاني, ثم تذكر قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة أنه أعطى محاوره اسماً لا يوجد أصلاً فى الوسط الأدبيّ, بينما كان يعنى اسماً آخر مشابهاً فى حروفه. ونتيجة هذه الغلطة اللسانية, تكَفّل الجبن والنفاق والادعاء المنتشر بين بعض أهل المهنة فى حصول ذلك الكاتب الوهمى غيابياً على جائزة كبري فى الآداب. فى المجموعة قصص أخرى تتناول برهافة وإبداع جوانب متنوعة من الحياة, لكنى فضّلت أن يقتصر حديثنا على القصص التى تحكى عن الشيخوخة, عن قرب أو من بعيد, لأنها تعطى الكِتاب بل والمقالةَ هذه - وحدة فنية نادراً ما تتوافّر لمجموعة قصصية. أمّا بمقياس الجمال, فبالمجموعة ذُرَى لا تقل روعة, وربما تزيد, عن القصص المذكورة هنا, فى عطاء قصصى جديد يحفل بالتنوع كما يتميز بالوحدة العضوية, وينمُّ, كما عودنا صاحبه, عن كاتب غنيّ ورث عن والده العظيم عبد الرحمن الخميسى جوهر الشعر, وإن جاء قصصاً لا سطوراً موزونة مقفاة؛ قصصاً تفيض بالحياة والحنان والتعاطف الإنسانيّ, وبالسخرية الحلوة والمرة. لمزيد من مقالات بهاء جاهين