هذا استحضار لذكرى أربعة ادباء راحلين، من نوابغ الابداع القصصى فى الادب العربى.. تناولنا فى الجمعة الماضى سيرة توفيق الحكيم ونجيب محفوظ.. واليوم نقدم إحسان عبد القدوس ويوسف ادريس، وتصوير لمناخات واجواء كل واحد منهم فى هذه القصص الأربع التى تنتمى لادب القصة القصيرة وهو لون برع فيه الأدباء الأربعة، وكانوا من كبار رواده، وصانعى تراثه، عطر الله ثراهم واكرم مثواهم ونفع البشرية جمعاء بجميل ابداعهم الذى سيتواصل على مدى الدهر. 3 نساء عبد القدوس الفاتنات بدأت أكتشف ميولى الأدبية بطريقة ربما تختلف عن بقية أقرانى من أهل الأدب، اى ليس بالتمرين على الكتابة، عبر خواطر اكتبها لحظة اكتشافى الأبجدية، ومعرفة استخدام الحروف، كما هى الحال مع كثير من اصحاب هذا الميل، محاولين تقليد ما يقرأونه من قصص الاطفال، وانما بدأ هذا الميل بالنسبة لى تمثلا لعوالم القصة التى اطالعها، وتماهيا مع ابطالها، ورغبة فى ان ادخل هذا العالم القصصى وأصير واحدا من افراده، وهى حالة تقمص واندماج تحدث مع قصص الفانتازيا البعيدة عن ارض الواقع الذى أراه وأعاينه وأقرأ عنه فى هذا الزمان وهذه الحياة التى بين ايدينا، مثل قصص السندباد وعلى بابا وعلاء الدين وغيرها من قصص يستلهمها كتاب الاطفال من عوالم الف ليلة وليلة، كما تحدث ايضا وبشكل اكثر قوة ودرجة اكثر حدة، مع قصص حديثة تتكلم عن عالم اليوم، وتقتبس وقائعها من احداثه، وتختار شخصياتها من اناس يتنفسون الهواء نفسه الذى نتنفسه، وينظرون الى السماء نفسها التى ننظر اليها، فيأخذون شكلا اكثر مصداقية، خاصة تلك القصص ذات الطابع الرومانسى، التى تصور قصص الحب، التى بدأت أطالعها وانا اتدرج فى مراحل الدراسة وصولا الى نيل الشهادة الابتدائية والذهاب الى ما بعدها، حيث وجدت فى قصص الكاتب إحسان عبد القدوس ما يرضى صبوات فتى يحث خطاه الى مرحلة المراهقة واحلام الحب الوردية، واجدها اكثر جاذبية ومتعة، واقرأ قصصه التى كان يوالى نشرها فى أواخر الخمسينيات واوائل الستينيات، فأجد نفسى والجأ لتلك العوالم، متقمصا حياة مجدى، وهو يعانى ويتعذب أسى ولوعة، يلاحق فتاة لعوبا من فتيات نادى الجزيرة اسمها نرمين، بينما هناك فتاة اخرى غريمة لها، وبطلة من بطلات السباحة فى مسابقات النادى، تريد ان ترمى شباكها حوله، إلا انه لا يلتفت اليها، رغم انها تتفوق فى جمالها ورشاقتها وخفة ظلها على نرمين، اسمها سناء، وأنسى حيرتى بين سناء ونرمين، وانا انتقل لقراءة قصة جديدة بطلتها فتاة اسمها غادة، وادخل معها فى مغامرة غير محسوبة العواقب، متقمصا هذه المرة دور حبيبها نبيل، بطل لعبة التنس فى النادى، الذى وقع فى غرامها، وبادلته غادة حبا بحب، رغم ان عائلتها، وافقت على خطبتها من ضابط شاب، له نجم صاعد فى سماء الامن، واكتسب صيتا واسعا بعد ان صار مسئولا عن الامن فى قصر من قصور الحكم الملكى فى مصر الجديدة، مخصص لاقامة زوار البلاد من ملوك ورؤساء، حيث يتولى هذا الضابط الاشراف على امنهم وحمايتهم، وقد اشفقت على نفسى وانا ادخل مغامرة هذا الحب، المحفوف بالمخاطر، اذ من يجرؤ على ان يتحدى رجلا مثل خطيبها، تحت أمره فيلق من الرجال المدججين بالسلاح، وصار له هذا المنصب الذى يجعله فوق المحاسبة وفوق القانون، وكلما تقدمت فى القراءة ازداد احساسى بالاهوال التى يمكن ان يجلبها لى هذا الحب، الى حد ان توقفت اياما عن القراءة، لكى أتخفف من ضغط الرعب الذى اصابنى نتيجة التهديد الذى يمثله المنافس فى حبها لى، معززا فوق ما يملكه من قوة وسلطة وسلاح ، بالغطاء الشرعى الذى يجعله الأحق فى الفوز بها، فلم أواصل القراءة لكى لا أصدم بالمصير الفاجع الذى أراه قد اصبح نهاية حتمية لهذا العاشق، الذى لا يملك شيئا يدخل به المنافسة غير انه بطل النادى فى لعبة لا شعبية لها ولا أحد يهتم بنتائجها ولا بطولاتها هى لعبة التنس، وعندما ارغمت نفسى لاكمال القصة ، لم اجرؤ على المضى غير صفحات قليلة ، اكتشفت خلالها ان الخطيب قد عرف بقصة المنافس الذى يريد ان يخطف خطيبته من بين يديه، واعتبرها معركة شرف وعرض، ومضى يدبر الخطط التى يزيل بها هذا الغريم من طريقه، وخوفا من بشاعة الطريقة التى سيزيله بها، توقفت مرة اخرى عن قراءة القصة، وابعدتها عن طريقى ، لكى اوفر على نفسى الصدمة التى ستصيبنى . وجدت فى ذلك الوقت الذى التحقت فيه بالجامعة الليبية، ان الدراسة فى كلية التربية تشدنى، الى حد اننى لا املك من وقت الفراغ ما اقضيه مع هواية المطالعة الحرة. زد على ذلك اننى بدأت أعبر عن ميولى الادبية بشكل اكثر ايجابية من مجرد التماهى مع ابطال القصص التى اطالعها، وانما صرت اتماهى اكثر مع ابطال الخواطر القصصية التى اكتبها، وانشرها فى الصحف والمطبوعات التى يصدرها طلاب الجامعة، وحدث فى يوم عطلة، ان وجدت اعلانا عن فيلم يعرض فى سينما الحمراء، مأخوذ عن تلك القصة ، التى لم اكملها خوفا على مصير بطلها نبيل، وقررت دخوله، لأكتشف ان مخاوفى التى منعتنى عن اكمال القصة لم يكن لها اى مبرر، وان كاتبا محبا للقراء، شفوقا عليهم مثل احسان عبد القدوس، لا يمكن ان يفجعهم فى البطل الذى احبوه، وعاشوا معه قصة الغرام القوية لتلك الفتاة الجميلة غادة، التى ظلمها الاهل بإرغامها على الزواج من رجل السلطة والامن، الذى لا تحبه ولا تطيق الاقتراب منه . وقد جعل الكاتب احداث قصته، كما ظهرت فى الفيلم، تحدث فى العام الاخير من العهد الملكى ، وان التدابير الاجرامية التى هيأها الضابط الكبير لإزاحة غريمه ، عن طريق افتعال حادث مرور ينهى حياته، توقفت فجأة بسبب ثورة ضباط الجيش على النظام الملكى، والاطاحة به ، والقبض على عناصر النظام وبينهم ضابط الامن الكبير، وسجنه وتقديمه الى المحاكمة، لتفتح تلك الثورة الطريق امام الوصول بقصة العشق بين غادة ونبيل ، إلى الخاتمة السعيدة. وانتهى الفيلم وهما يسيران متشابكى الذراعين، عريسا وعروساً، تزفهما حشود الراقصين والموسيقيين والمغنين. انتهت مرحلة التماهى مع قصص الغرام التى يكتبها القدير احسان عبد القدوس، وواصلت كتابة القصص الرومانسية، بأكثر مثابرة واجتهادا ومحاولة لتنمية ملكاتى واستكمال ادواتى الكتابية، ولكننى افتقر، لما كان متوافرا لكاتبى المفضل وقدوتى فى الادب الرومانسى، أفتقد مجتمعا راقيا متفتحا على قيم العصر ومفرداته، يغذى هذه القصص بالاحداث والشخصيات التى تكون المادة الخام للكتابة الابداعية، وافتقد ذلك النادى الذى يكثر عبد القدوس من اقتباس شخصياته النسائية والشابة من بين اعضائه، نادى الجزيرة ، ليكون منبعا ثريا أتزود منه بحاجتى لمثل هذه النماذج والشخصيات، واختار من بين نسائه الفاتنات، البطلات اللاتى يضفين جوا من سحر المجتمعات الراقية على عوالمى القصصية، ورغم بعد المسافة زمنيا بينى وبين اجواء ذلك النادى الذى تستلهمه قصص احسان، فقد ظل الشوق يفعم قلبى لرؤية ذلك النادى والاختلاط بأهله من نساء ورجال، باعتباره منطقة من مناطق الإلهام لاصحاب مهنة القلم، الى حد اننى أراه نقصا فى تأهيلى الادبى يجب استكماله، ولم تغب عن بالى طوال الوقت بطلات السباحة والفروسية وألعاب التنس والهوكى والإسكواش، فى ذلك النادى، حريصا على ان انتهز اول فرصة تتاح لى لزيارة القاهرة ، من أجل الانتساب لنادى الجزيرة ولو لاسبوع واحد، لأشبع نهمى للاغتراف من عوالمه التى كانت معينا لا ينضب لكاتب قصصى غزير الانتاج مثل احسان عبد القدوس. ولم تحن هذه الفرصة إلا وانا على مشارف التقاعد من عملى الاكاديمى، عندما جاءت مكافأة نهاية الخدمة ، على شكل اجازة اكاديمية تعتمدها الجامعات لكبار السن فى هيئة تدريسها مدتها عام كامل، اخترت قضاءها فى القاهرة، حيث سافرت الى هناك، واضعا على رأس أولوياتى، تقديم اشتراك يمنحنى حق الدخول الى نادى الجزيرة ، لفترة محدودة، ووجدته كما اجادت قصص احسان فى تصويره، فضاء للراحة واللعب والتسلية، يغلب اللون الاخضر على مساحته التى تصل الى سبعة او ثمانية افدنة فى قلب المنطقة الأرقى من مناطق القاهرة وهى حى الزمالك، وتتخلل هذه المساحات من الاشجار والنجيلة والمقاهى والمطاعم والساحات المخصصة لالعاب الهواء الطلق مثل التنس وكرة القدم والكرة الطائرة، واحواض السباحة، وابنية مسقوفة للادارة وقاعات الاجتماع والندوات او العرض السينمائى والمسرحى، واعضاء النادى من نساء ورجال يشغرون هذه المساحات يجلسون الى الارائك وسط الاعشاب يتناولون شرابا او طعاما ومن حولهم النوافير والطيور، ووجدت قلبى الذى عاش يرزح تحت اعباء الظل الثقيل للحكم العسكرى البدوى المعادى للفرح والتسلية فى طرابلس، يتفتح مثل زهرة عباد شمس وهى تستقبل اشعة النور، ومشيت اتعرف على المكان، واعطى نفسى فرصة الاستلقاء على اريكة والاستمتاع بلعق كوب من الايس كريم، ثم انطلق الى حيث ملاعب التنس، فأتفرج على اللاعبات الرشيقات الجميلات، وأصل الى مساحات مخصصة للتدريب على الفروسية، فأستمتع بمنظر الجياد وهى تحنى رءوسها طائعة لفارسة كالرمح فى انسياب جسمها، واناقة زيها، وانتصاب قامتها الممشوقة الفاتنة، وأتفرج على مداعباتها لحصانها ومبارياتها مع رفاق ورفيقات اللعب، وبمحاذاة هذا المكان، مكان آخر لفروسية من نوع يختلف عن التعامل بالجياد هى الرماية حيث يتنافس المتنافسون فى ضرب اهداف تنتصب فى آخر الميدان، وكنت فى اثناء هذا التجوال ابحث عن شىء واحد هو بطلات احسان عبد القدوس، احاول ان التقط من بين كل هؤلاء النساء، من يمكن لعين احسان ان تجد فيها هدى او نادية او ميمى او فيفى من بطلات قصصه، فهل بطلة القصص التى كتبها عبد القدوس، هذه التى أراها وقد خرجت لتوها من حوض السباحة، تضع الفوطة حول جسمها، مشعة، مغسولة، هل هى تلك اللاعبة من لاعبات التنس التى تركض، واتذكر طبعا ان لا مجال لأن تكون احدى هؤلاء الصبايا بطلات لقصص احسان، لأنهن ولدن بعد رحيل احسان نفسه عن هذه الحياة، وكنت بطبيعة الحال احتاج لعدد من الزيارات، تتعدد فيها الاماكن التى اجلس فيها واتناول فيها طعامى او اكواب الايس كريم، او اشرب فناجى الشاى والقهوة، حتى صار ممكنا ان التقى لقاء الشوق وارضاء الفضول، لكل نساء ورجال النادى الذين كانوا مادة لعوالم احسان عبد القدوس القصصية مهما تختلف الاعمار، وتتقادم الازمنة ، وتحيل الشباب الى شيوخ والصبايا الى عجائز، فهناك عبق يصنعه الابداع الادبى لا يتقادم بمرور الزمن، هو ما اسعى لأن أتلقاه، واعرف من خلاله تلك الشخصيات، وكنت كلما جلست قريبا من تجمع نسائى، احاول من خلال الانصات لما يقال والنظر الى ما بدت عليه الملامح ، ان اتلمس طريقا للنساء اللاتى تتجسد فيهن بعض ما صوره احسان من ملامح، وما استلهمه من مواصفات فى بطلاته الفاتنات، حتى عثرت اخيرا على التجمع النسائى الذى رأيته الاقرب والاكثر مطابقة لما اتصوره عن أولئك البطلات وما اصبحن عليه فى الوقت الحاضر، ولم يكن غريبا ان وجودهن فى هذا التجمع الذى يزيد افراده على العشرة، حصل بسبب رابط يجمعهن، هو انهن اكثر بنات النادى ألقا واستقطابا للاعجاب وفوزا فى مسابقات الجمال او فى مباريات الرياضات التى يتقنها اهل الطبقة الراقية، خاصة ان طبقات بعينها كانت تحتكر هذا النادى فى ازمنة الاربعينيات والخمسينيات قبل ان تتراجع الطبقات الراقية من موقع الصدارة فى المجتمع وتزحف حشود قادمة من الارياف الى المدن وطبقات صاعدة من الفقر الى السعة فى الرزق، وتصبح هى التى تشكل اغلبية هذه النوادى مثل نادى الجزيرة، وهذا الجمع النسائى كان واضحا ان رابطة الانتماء للطبقة الراقية القديمة هو ما يشكل رابطة اخرى غير رابطة النجومية فى النادى، وكانت العلامات التى اعتمدت عليها كثيرة بينها انهن جميعا يتميزن بنصوع البشرة وبياضها مثل النساء الاجنبيات، وجميعهن يخلطن فى كلامهن كلمات كثيرة فرنسية باللهجة المصرية التى يتكلمن بها، ومعروف ان الفرنسية كانت هى لغة الطبقة الراقية فى مصر الملكية، وخاصية ثالثة كانت تتكرر فى بطلات احسان، هى زرقة العينين، وكان فعلا اللون الغالب على لون اعينهن هو اللون الازرق، وهناك علامة رابعة او خامسة تؤكد انتماء هذه المجموعة الى عالم احسان عبد القدوس ، هى الاسماء التى تتكرر لدى اهل هذه الطبقة مثل نيفين ونرمين وشيرين ونجوى وفاتن وفيفى وسوسو وريرى وزيزى، وخصيصة اخرى زادتنى يقينا بأننى وصلت الى مبتغاى، هو ما يتردد فى احاديثهن، من استذكار لبطولات قديمة ، فتلك تستذكر عندما كانت بطلة التنس واخرى عندما كانت ملكة جمال النادى ورابعة عندما كانت بطلة الفروسية، او الإسكواش او السباحة او الرماية، وبطبيعة الحال فإن الفرحة التى كنت اتوقعها عند عثورى على هؤلاء النسوة اللاتى افتتنت بهن ، لم تحدث، لانه لم يبق فى بطلات احسان الفاتنات، شيء من تلك الفتنة ، فجميعهن عجائز، اصغرهن فى سن السبعين، وبعضهن فى سن الثمانين، وبعضهن لم يكن يستطيع عن المشى والحركة الا بالاعتماد على عصا تتعكزن عليها، ولم يكن ما رأيته صدمة لى، فلم اكن غافلا على كيمياء الزمن وما يمكن ان تفعله فى هؤلاء البطلات اللاتى مازلن بفضل سحر الابداع يتجولن بكامل مؤهلات الانوثة والجمال التى يملكنها فوق صفحات القصص التى كتبها ذلك المؤلف العبقرى، فالجمال هناك لا يذبل ولا يزول بفعل الزمن ، ولكنه هنا عند المادة الاصلية شىء آخر، فهذه الكيمياء الفاعلة فى تدمير الخلايا واصابتها بالوهن والضعف، تجرى تحت جلودنا جميعا وتصنع التغضنات والتجاعيد، بما فى ذلك جلدى وما يحدث له وانا اغادر الشباب والكهولة الى مرحلة الشيخوخة، ولابد اننى وانا ابحث عن طريقة ابعث بها حياة جديدة وولادة جديدة لمجتمعات الرقى والجمال فى قصص احسان، كنت اخدع نفسى واضحك عليها، فلعل الوضع الطبيعى كان يقتضى ألا أصرف جهدى فى البحث عن هؤلاء النسوة المتقدمات كثيرا فى السن ، واستمتع منذ بداية وصولى الى هذا المكان بجمال اجيال جديدة من نساء ما زلن فى شرخ الصبا، ولكن المشكلة التى لا مندوحة من مواجهتها، والاعتراف بها ، هى ان عالم هؤلاء الصبايا الفاتنات ، عالم ليس لى، ولا املك حق ان اتطلع اليه بأكثر من نظرة حانية عطوف هى نظرة الاب لابنته او بناته، ولا مجال لاستحضار مشاعر الشوق والمحبة ومعانقة الجمال التى كانت تراودنى وانا أقرأ النظارة السوداء، وانا حرة، ولا تطفئ الشمس ، والوسادة الخالية، والطريق المسدود، والبنات والصيف ، والخيط الرفيع والله محبة، ولا انام ، فليس للانسان الا عمر واحد، ولا مجال لان يعيش مرحلة الصبا والشباب الا مرة واحدة، مرحلة اراها الان، عبر هذه المواقف والمشاهد واللقاء بهؤلاء النسوة ، مرحلة قصيرة، طارئة عابرة فى حياتنا، وارى ان عمر الانسان كله ، مهما طال فهو قصير جدا، وسيأتى يوم يراه يتسرب من بين اصابعه كما يتسرب الرمل، هذا ما يحدث لى الان، وهذا ما حدث لهؤلاء النسوة الفاتنات اللاتى كن فى يوم من الايام يستقطبن الاعجاب والاضواء ويلهمن كاتب الحب والجمال ليغترف ابداعه من فيوض فتنتهن وجمالهن. وفعلا كدت انهض من مكانى لأصافحهن واحدة واحدة ، اعتذر لهن عن غدر الزمان، وعبث الحياة التى نظنها فى لحظة من اللحظات ، ملك ايدينا، قبل ان تتبخر كما تتبخر فقاعة فى الهواء. منعت نفسى ان افعل ذلك، لاننى لست الا ضحية من ضحايا هذا الزمن مثلهن، ولا سبيل ولا نجاة من احاسيس التحسر والفجيعة الا الايمان الشعبى الذى يستقبل به اهلنا هذه الحقائق والنواميس ، قائلين بلغة المثل الشعبى الذى ابدعوه ، انك لن تسطيع ان تأخذ زمنك، وزمن الاخرين، فلابد ان يكتفى كل انسان بحصته. وكان كل ما فعلته وانا اكتفى بحصتين هو ان قررت الامتناع عن الذهاب الى نادى الجزيرة ، تاركا بطلات احسان عبد القدوس الفاتنات ، يهنأن بشيخوخة مريحة ، بعيدا عن فضولى ، الذى اثار غيظهن، عندما وجدن شيخا لا يبعد عنهن كثيرا فى العمر يجلس قربهن، وينصت الى حديثهن، ويقتحمهن بنظراته، حتى كدن يشتكيننى الى موظف الامن فى النادى.
4 قصة لم يكتبها يوسف إدريس لم يكن يوسف ادريس الذى خصصت له صحيفة الاهرام مكتبا يحضر اليه كل يوم بضع ساعات، يستطيع ان يحيل مكتبه الى فصل لتدريس القصة، فلم يكن يرحب كثيرا بهواة الادب الذين يريدون أخذ رأيه فى كتاباتهم الا فى حالات نادرة، اما غير ذلك فالمكتب للقاء اصدقائه واجراء المقابلات الصحفية والاحتفاء بزوار مصر من كتاب عالميين او عرب لهم صداقات ممتدة معه، واحيانا يستخدمه فى كتابة المقال الاسبوعى الذى ينشره فى صحيفة الاهرام، اما ابداعه القصصى والمسرحى، فمكان انتاجه هو غرفة مكتبه فى البيت، وفى جزء متأخر من الليل، وحدث ان اجرت معه صحيفة من صحف القاهرة لقاء صحفيا اجاب فيه عن سؤال حول دوره فى توجيه الاجيال الجديدة من كتاب القصة ومدى صحة انه يصدهم عن الاتصال به، خوفا على اضاعة الوقت الذى يجب ان يخصصه لابداعه الادبى، فقال انه لا يصد غير المتطفلين والفضوليين ممن لا مواهب لهم، واما المواهب الحقيقية التى تملك استعدادا وموهبة فان مكتبه فى صحيفة الاهرام مفتوح لاستقبالهم، وفى اليوم التالى وجد اتصالا من ديسك الاستقبال فى صحيفة الاهرام يقول ان هناك سيدة تريد لقاء الدكتور يوسف ادريس اسمها صفاء، وتقول انها كاتبة قصة ناشئة جاءت تلبية للدعوة التى وجهها للكتاب الناشئين فى مقابلة الامس، لاستشارته فى عمل ادبى، ولعل اول شىء ورد على باله هو ان يعتذر عن استقبالها لانها يجب ان تطلب موعدا بالهاتف ، وكونها الاولى التى تطرق بابه بعد الدعوة التى وجهها للناشئين، سمح لها بالصعود الى مكتبه، وكان يتوقع شابة فى سن الدراسة الجامعية، باعتبارها السن التى تظهر فيها الهوايات وتتبلور فيها الميول الادبية، الا انه وجد امامه امرأة فى العقد الخامس من عمرها، وسالها بعد كلمات الترحيب والمجاملة عن هواياتها الادبية واللون الادبى الذى تميل الى كتابته، فقالت انها تكتب القصة وسألها عن كيف تأخرت معها هذه الهواية الى هذا الوقت وعادة ما تبدأ مثل هذه الهوايات مع اصحابها فى سن مبكرة، فقالت انها فعلا بدأت معها منذ ايام الدراسة الا ان وجودها فى احدى المدن الريفية، لم يتح لها فرص الاتصال بالاوساط الادبية، ثم انها تزوجت فى الارياف زواجا تقليديا لا يشجع على الكتابة والنشر فكتمت موهبتها فى صدرها، وتفرغت للعمل ربة بيت وحدث ان انتقلت منذ سنوات الى القاهرة، ووجدت نفسها بعد الانفصال عن زوجها وزواج ابنتها الوحيدة وسفرها مع زوجها الى الخارج، تعود الى ميولها الادبية وتفتش عن مدى قدراتها على استئناف الكتابة التى هجرتها منذ ربع قرن او اكثر وكتبت بعض القصص جاءت بإحداها لكى تعرف ان كانت حقا لاتزال تحتفظ بلياقتها الأدبية، ام تترك الموضوع وتتجه الى شيء آخر تشغل به وقتها، ولم تجد أحدا أكثر قدرة على ان يعطيها حكما ناجزا كاملا، غير الاديب الكبير يوسف ادريس، وسوف تعد الكلمة التى يقولها فى انتاجها القول الفصل الذى يأمر باستمرارها أو توقفها. اعطته قصة قصيرة مضروبة على الآلة الكاتبة، فى اربع صفحات، اكتفى بقراءة العنوان، «صرخة فى الظلام» واسم الكاتبة صفاء عبد البديع ، ووضعها فى ملف امامه، قائلا انه سيتولى قراءتها ويبلغها برأيه فيها فور الانتهاء من قراءتها، وأراد ان يبقيها قليلا ليعرف شيئا عن قراءاتها الا انه لم يفز منها بشيء يمكن ان يفيده، لانها كما قالت انقطعت عن القراءة سنوات كثيرة بحيث لا تستطيع ان تتذكر الروايات والقصص التى قرأتها فى مراحل الصبا والشباب الباكر من عمرها، ولم يكن يتوقع من امرأة لا تستطيع ان تذكرعملا ادبيا واحدا قرأته ولا كاتبا أعجبت به ، ان تكتب ادبا جديرا بالاهتمام والاحتفاء، الا انه عندما عاد الى البيت ووجد وقتا قرأ فيه قصة «صرخة فى الظلام» وجد اسلوبا وتقنية وبراعة فى المعالجة لا يمكن ان يكون صاحبها قلما مبتدئا، وانما قلم صاحب خبرة وتجربة وموهبة، هذا من ناحية ومن ناحية ثانية فإن القصة استبطان لعوالم داخلية وهواجس امرأة لا يمكن ان تكون امرأة عربية، وانما هى هواجس وخواطر وعوالم امرأة تعيش فى مجتمعات التحرر الاجتماعى، وتطلب الانطلاق فى آفاق ومساحات من الحرية ليست متاحة حتى فى الخيال بالنسبة لواقع المرأة العربية، خاصة لامرأة تقول إن بيئتها تمنعها من مجرد الاتصال بصحيفة أو كتابة اسمها فوق قصة ومقالة، وادرك دون ذرة شك واحدة ان المرأة التى قابلها لا يمكن ان تكون كاتبة القصة ، وانما هى قصة من تأليف كاتب غيرها وهذا الكاتب ليس عربيا وليس كاتبا بل هى كاتبة اجنبية، ولكنه لا يستطيع ان يتذكر كتابا او مرجعا يستطيع ان يعود اليه يمكن أن يفيده فى تأكيد هذا السطو وهنا خطرت عليه فكرة رأى أن فيها الحل لإيجاد البرهان على صحة فكرته، كان سيحضر بعد يوم واحد اجتماعا مع عدد من كتاب القصة فى المجلس الاعلى للثقافة للتحضير لندوة تقيمها لجنة القصة فى المجلس، فقرر ان يستنسخ مجموعة نسخ يعطيها لاعضاء اللجنة ويسألهم النظر فيما اذا قرأوا هذه القصة فى اى كتاب قصصى مترجم، ونجحت الفكرة، لانه بعد يومين فقط رجع إليه زميله فى اللجنة يوسف الشارونى قائلا انه عثر على الكتاب الذى اخذت منه هذه الصفحات وانه لم يكن فى الاساس قصة قصيرة ولكنها صفحات مقتطعة من رواية الحديقة لكاتبة فرنسية هى مارجريت دوراس، وان الرواية لم تترجم فى مصر ولكنها طبعت وترجمت فى بغداد، وكان قد احضر الرواية معه من هناك فى آخر زيارة قام بها الى العاصمة العراقية، صح حدس يوسف ادريس، غير انها بدت ذات احترافية عالية فى السطو، فهى لم تذهب للسطو على قصة قصيرة يمكن اكتشافها وانما تأتى الى رواية مغمورة لكاتبة عالمية مشهورة، لتقتطع منها مقطعا تجعل منه قصة قصيرة، وفعلا ثمة براعة فى اختيار المقطع الذى يقرأه القارئ فيحس انه عمل ادبى سردى من النوع القصير، مكتمل الشروط، وتختار كتابا ليس منشورا ولا معروفا فى مصر وانما فى دولة عربية اخرى، حصلت عليه من معرض من المعارض، او مما تقدمه الملحقية الثقافية العراقية لزائريها على سبيل الاهداء، وكان قد تلقى منها اكثر من مكالمة تسأله عما اذا كان قد قرأ القصة فكان يعتذر لها بمشاغل شغلته عن القراءة، الا انه هذه المرة اجابها بانه قرأ القصة وانه شديد الاعجاب بها ويطلب منها ان تزوره فى المكتب ليشرح لها الجوانب التى نالت اعجابه فى قصتها «صرخة فى الظلام». وكان قراره فى البداية ألا يفصح لها عن اكتشافه لسرقتها حتى تأتى بقصص اخرى ليرى كيف ستفعل فى مستقبل السرقات، الا ان ذلك سيأخذ منه وقتا وجهدا، لا ضرورة له، ولم يعد ما يعنيه الآن اكتشاف سرقاتها الادبية ، ولكنه امام حالة مرضية، انها امرأة تحتاج الى علاج نفسى ربما يستطيع ان يقدمه لها، فهو لن يستطيع ان ينسى انه طبيب وانه نال تأهيلا فى الطب النفسى ومارسه لبعض الوقت، قبل ان يتفرغ تفرغا كاملا للكتابة الادبية، ولعل حاله معها بدأت بالاحتقار لما فعلته، ولكن هذا الاحتقار تحول الى اشفاق وحزن على هذه المرأة التى مازالت فى عمر يسمح بالعمل فى المهنة التى تحبها وفى الاستمتاع بحياتها، وقرر بينه وبين نفسه ان يجد طريقا لفهم ظروفها وملابسات حياتها التى اوصلتها الى مثل هذه العلة النفسية. استهل حديثه عندما وصلت الى مكتبه بالثناء على القصة، واسلوبها وتقنياتها، واكثر من ذلك اعجابه باللغة التى عبرت بها عن الحالة النفسية التى تمر بها بطلة القصة، وكانت قد سمًّتها خديجة، وسألها عن سر اختيارها هذه اللحظة، وما الذى اجتذبها فى امرأة تترك سريرها فى آخر الليل، ولا تطيق البقاء فى فراشها، وتخرج لتهيم على وجهها فى الشارع، وهى تصرخ بمشاعر مكتومة عن السدود والقيود التى يضعها المجتمع فى طريقها، لان درجة الصدق وقوة الانفعال يدل كما قال لها عن عمق المعايشة لهذه الحالة ، وسألها ان كانت القصة بناء عن تجربة شخصية مرت بها، ويرجو ان يسمع منها هذه التجربة. فقالت ان الحالة التى تصورها القصة، تمثل موقفا متكررا فى حياتها، لان هذا ما حصل لها عندما ارغمت على ترك الدراسة والبقاء فى البيت دون رغبتها، سجينة بين جدران بيت اسرتها، وهذا ما حصل لها عندما تزوجت زواجا مفروضا عليها، ويكفى ما قالته ليعرف ان حياتها سلسلة من مثل هذه الصرخات فى الظلام التى تكتمها فى صدرها ولا تجد فرصة للبوح بها الا عن طريق نفثاث القلم. بدا واضحا للدكتور يوسف ادريس ان اختيارها للقصة لم يأت عبثا، ولم يشأ ان يصدمها فيقول لها انه اكتشف سطوها على مقطع من رواية فرنسية، وان ما فعلته يشبه تماما ما يفعله نشال يعتدى على حافظة راكب فى الحافلة، وانما قال لها اننا احيانا نقرأ أسطرا فى عمل ادبى، فنجد فيه تعبيرا عن حالتنا، وننفعل ونندمج مع ما قرأناه الى حد التوحد والتماهى، ونصل بعد مرور فترة من الوقت الى تبنيه، والاعتقاد ان الاسطر نحن من كتبها تعبيرا عن الحالة التى نعيشها، ونسقط من وعينا ان كاتبا غيرنا هو الذى كتبها، وابلغها ان هذا بالضبط ما حصل لها عندما وجدت فى رواية الحديقة لكاتبة فرنسية اسمها مارجريت دوراس، صفحات تعبر عن حالتها ووصفا دقيقا لمعاناتها، فنسختها وجاءت بها اليه، وقد تصورت انها الكاتبة. ورغم نعومة الاسلوب الذى استخدمه يوسف ادريس فى كشف سرقتها، فإنها لم تكن تملك ردا، بقيت صامتة فى حالة انشداه وبلاهة، ثم انهمرت فى بكاء حارق طويل، فصبر عليها حتى انتهت من بكائها ، واخرجت منديلا من حقيبتها جففت به دموعها، وهاتف البوفيه يسألهم احضار كأس من عصير الليمون لها، وتركها وهى تشرب الليمون ربما تقول شيئا تشرح به موقفها، الا انها ظلت خرساء، فقد ألجمتها المفاجأة أن يوسف ادريس يعرف مصدر سرقتها للقصة، واستعصى عليها ان تتفوه بأى كلمة. تولى الدكتور يوسف ادريس الكلام قائلا إنها ربما تستطيع لو ارادت ان تستخدم الاسلوب القصصى فى التعبير عن حالتها، ولكن ليس ضروريا ان تكون كاتبة او اديبة، لأن هناك ماهو اكبر واعظم من الادب، واتقان الكتابة الادبية، هو الذى يجب ان يكون على رأس أولويات اى انسان فى الوجود، وهو الحياة، وإتقان الحياة قبل اتقان اى مهنة اخرى يريد الانسان امتهانها، وانه لا شيء يمكن ان يكون بديلا للحياة، وهو ما يدعوها اليه، لانها تحدثت عن قصص الماضى ، وما قابلته فى حياتها من عسف وقهر، ولكنه يراها الان امامه خارج تلك البيئة الريفية التى حجرت عليها، وانها موجودة الان معه فى مكتبه خارج اسوار البيت الذى ارغمت على البقاء فيه، وانها ابلغته بانها انفصلت عن الزوج الذى ارغمت على الزواج منه، ولهذا فإن عليها ان تعيش حالة الانعتاق التى حصلت عليها، وان تستمتع بحرية التصرف فى حياتها، والا تعيش رهينة الماضى، ثم قال لها وهو يودعها إنه يرحب بأى قصة تكتبها هذه المرة بقلمها وسيكون سعيدا بارشادها الى الطريق السليم، وان لم تشأ فإن آفاق الحياة اوسع واكبر من حبسها فى قصة قصيرة تعذرت علينا كتابتها. كانت هذه هى القصة التى حصلت ليوسف ادريس مع القارئة التى سطت على صفحات مترجمة عن الفرنسية، ولانه لم يصنع منها قصة فكتبت انا هذه القصة التى لم يكتبها يوسف ادريس رحمه الله.