لأول مرة فى تاريخ الإسلام والمسيحية يظهر خطاب مشترك يتحدث عن المسلمين والمسيحيين لا بوصفهم أصحاب ديانتين مختلفتين ولكن بوصفهم مواطنين، سواء كانوا من أهل البلاد كالمسلمين والمسيحيين فى مصر وفى غيرها من البلاد الإسلامية أو كانوا مهاجرين كالمسلمين فى البلاد المسيحية فى أوروبا. هذا الخطاب الجديد لا يقوم على التمييز بين أكثرية وأقلية أو بين المنتمين لدين الدولة وغير المنتمين له، وإنما يعتبر الجميع سواء لأنهم ينتمون لوطن واحد هو مصدر حياتهم ومجال نشاطهم وعمود وحدتهم التى لا يصح أن تتأثر باختلاف الدين. لأن الدين اختيار شخص وعلاقة بين الإنسان وربه يستطيع المؤمن أن يؤدى واجبه نحوها دون أن تتأثر بذلك علاقته بوطنه، فإذا بنى علاقته بوطنه وبغيره من المواطنين على أساس عقيدته الدينية التى تختلف قليلا أو كثيرا عن عقائد الآخرين عرض حياته وحياة غيره للنزاع والشقاق، وربما عرضها لما هو أعنف وأقسي. ولأن الدين علاقة بين الإنسان وربه فهو يترك علاقة المنتمين له بوطنهم ومواطنيهم لهم يتصرفون فيها حسب ما يرى العرف وتقتضى المصلحة وتسمح الظروف. وهذا ما أكده رسول الإسلام عليه السلام بصراحة ووضوح حين قال للمسلمين «أنتم أعلم بشئون دنياكم».. فى هذا الحديث تمييز واضح بين الدنيا والدين. الدين عقائد ثابتة لا تتغير لأنها تتصل بما هو ثابت فى الكون وراسخ فى الضمير، أما الدنيا فهى بالأمس غيرها اليوم وغدا وبعد غد، ولهذا يجدر بنا أن نبعد الدين عما يمكن أن نختلف فيه وأن نجعله راحة أفئدتنا وملجأ أرواحنا ومصدر أمننا وطمأنينتنا. لكننا لم نلتفت كثيرا لهذا التمييز الواضح بين الدين والدنيا وظللنا نخلط بينهما. نسيس الدين، وندين السياسة لنعطى الدين وظائف عملية ونعطى السياسة طابعا دينيا ونسخرهما معا للوصول إلى السلطة والبقاء فيها إلى أن يتمكن مغامر جديد من الوصول إليها بالطريقة التى وصل بها من سبقوه. من هنا وقف الطامعون فى السلطة جميعا ضد التمييز الذى عبر عنه الرسول فى كلمته، لأن التمييز يمنع الناس من الخلط ويؤسس حياتهم فى مجتمعهم على مبدأ المواطنة الذى عاد إليه شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان فى وثيقتهما التاريخية التى أعلنا فيها أن المسيحيين فى البلاد الإسلامية مواطنون كاملو الحقوق فليس لسلطة أو لأحد أن ينتقص من حقوقهم الكاملة، وأن المسلمين المهاجرين فى البلاد المسيحية الأوروبية مواطنون كاملو الحقوق فليس لسلطة أو لأحد أن يعتدى على حقوقهم وليس من حقهم هم أنفسهم أن يعتزلوا غيرهم ويقاطعوهم بدعوى المحافظة على تقاليدهم التى لا يصح أن تكون حائلا ضد اندماجهم فى حياة الأوروبيين التى لا يرى شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان ما يمنع المسلم من الاندماج فيها مادامت الحرية مكفولة للمواطن ومادام يستطيع أن يعبر عن رأيه ويختار موقفه، فله إذن أن يميز بين ما يراه متفقا مع معتقداته وما لا يراه كذلك، لكن عليه دائما أن يحترم قوانين البلاد التى يلتزم باحترامها الجميع والتى تضمن له كل الحقوق التى يتمتع بها غيره من المواطنين. والمواطنة ليست مجرد جوار فى بلد واحد ولكنها منظومة من القيم والحقوق يكتسبها من ينتمون لوطن مشترك يعترف لهم جميعا بأنهم أخوة أحرار متساوون، وتلك هى الشعارات التى رفعتها الثورة الفرنسية عندما قامت فى نهايات القرن الثامن عشر فأصبح كل الفرنسيين مواطنين بعد أن كانوا رقيق أرض يستبد بهم الملك ونبلاؤه وحلت كلمة مواطن محل كل الصفات والألقاب التى كانت تسبق الأسماء. ومن الطبيعى أن يتأخر استعمالنا لكلمة المواطنة بمعناها الذى استعملت به فى أوروبا، أكيد أننا كنا نتحدث عن الوطن، لكن لنعبر عن شعورنا بالحنين للأهل أو لمسقط الرأس، أما الوطن الذى هو مصدر الحقوق والواجبات وأصل الهوية فلم يكن حاضرا لأن الناس كانوا ينتمون للأهل والدين. وهناك من تطرفوا فحصروا الانتماء للدين وحده كما قال أحدهم «القرابة ليست قرابة الأبدان أو قرابة الأوطان وإنما هى قرابة الأديان». هذا الشعار فتح بلادنا للغزاة الأجانب لمجرد أنهم كانوا مسلمين. ثم إن الثقافة كانت ثقافة بدوية لا وجود فيها لمجتمع مستقر. وفى هذا المناخ كان التمييز على أشده بين العشائر والسلالات وأصحاب الديانات المختلفة. من هنا كان حديث الطهطاوى عن الوطن نقلة مهمة استفاد فيها من ثقافته الفرنسية واستطرد فيها للحديث عن واجبات أبناء الوطن، وعن الحرية العمومية والتسوية بينهم. يعنى أكسب كلمة الوطن مضمونا سياسيا وقرب بينها وبين معنى المواطنة. غير أن هذا ظل محصورا فى بعض الكتابات. أما فى الواقع السياسى الفعلى فقد بقى الحال على ما كان عليه، وظل التمييز قائما يعانى منه المسيحيون فى الشرق الإسلامى والمسلمون فى الغرب المسيحي. صحيح أننا نحاول الخروج من هذا الواقع وأننا خطونا خطوات فى الطريق إلى المواطنة لكنها ليست كافية. ومازلنا نحتاج لمواجهة صريحة مع الذين يخلطون بين السياسة والدين يساعدنا فيها هذا الموقف الجديد الذى اتخذه الأزهر واتخذه معه الفاتيكان. ولنتصور ما سوف يكسبه الإسلام حين يكون له فى أوروبا حضور فاعل وحوار ثقافى ينتج عنه إسلام أوروبى يجمع فيه بين أصوله وبين ما وصلت إليه الحضارة الغربية الحديثة فى العلم والفكر والسياسة والاجتماع. ونحن نعرف أن عدد المهاجرين المسلمين فى أوروبا بلغ ثلاثة وخمسين مليونا. فى فرنسا وحدها خمسة ملايين مسلم، وفى ألمانيا أربعة ملايين، وفى انجلترا ثلاثة ملايين. ولقد رأينا أمثلة مما حققه المسلمون الأوروبيون الذين استطاعوا أن يصلوا إلى أرفع المناصب العلمية والسياسية والثقافية فى البلاد التى استوطنوها. نساء مسلمات صرن وزيرات للتربية والعدل فى حكومات ساركوزى وفرانسوا هولاند. والمسلم الهندى الذى انتخبه الإنجليز عمدة لعاصمتهم لندن. والأسماء كثيرة فى الثقافة. ولنتصور ما سوف يكسبه الإسلام فى بلادنا وتكسبه المسيحية حين يندمج المسيحيون فى مجتمعاتنا الإسلامية، ويضيفون لها ما تسمح لهم به تجاربهم. غير أن العقبات لا تزال تعترضنا! لمزيد من مقالات ◀ بقلم: أحمد عبدالمعطى حجازى