فى مقالة الأربعاء الماضى بدأت حديثا عن الوثيقة التاريخية التى أعلنها شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان فى أبو ظبى. واليوم أواصل الحديث عن هذه الوثيقة التى لم تنل ما تستحقه من الفهم والحفاوة. لقد اعترف شيخ الأزهر والبابا فى هذه الوثيقة اعترافا صريحا حاسما بأن المسيحيين العرب والشرقيين عامة مواطنون كاملو الحقوق وأن العقيدة الدينية لا تؤثر سلبا أو إيجابا فى حقوق المواطنة. فالكل فى الوطن أحرار متساوون. وهم أمة واحدة لا تفرقة فيها بين أقلية دينية وأغلبية. وأن اندماج غير المسلمين عامة فى الكيان الوطنى الواحد حق للجميع وواجب على الجميع. وكما يحق لغير المسلمين ويجب عليهم أن يندمجوا اندماجا تاما فى المجتمعات الإسلامية، يحق للمسلمين المهاجرين ويجب عليهم أن يندمجوا فى المجتمعات الأوروبية المسيحية وغيرها ويحترموا قوانينها ويمارسوا شعائرهم الدينية بما لا يتعارض مع هذه القوانين أو يعزلهم عن غيرهم من أهل البلاد. وأنا أنظر فى تاريخ الإسلام وتاريخ المسيحية فأجد أن هذه الوثيقة من أخطر ما صدر عن رؤساء العقيدتين، لأنها تقوم على الفصل بين الدين والسياسة، ونحن نعرف أن المشتغلين بهما كانوا يسعون دائما ولا يزالون يفعلون للخلط بينهما واستخدامهما فى الوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها، ولأنها أقصد الوثيقة تذكرنا بأحداث كبرى عرفها الإسلام وعرفتها المسيحية. إنها تذكرنا بالوثيقة التى أعلنها الرسول عليه الصلاة والسلام منذ ألف وأربعمائة عام فى يثرب وآخى فيها بين العرب المهاجرين والأنصار، وبين المسلمين واليهود، وأقر فيها حرية العقيدة، وحرية الرأى، وحرمة الحياة، وحرمة المال، ووقعها من ناحيته، كما التزم بها يهود المدينة. والوثيقة الجديدة التى صدرت أخيرا تتويجا للقاءات ومحادثات تمت بين شيخ الأزهر الذى يمثل المسلمين من أهل السنة وبابا الفاتيكان الذى يمثل المسيحيين الكاثوليك هذه الوثيقة تذكرنا باللقاء الذى تم بين الرسول عليه الصلاة والسلام ووفد نصارى نجران الذى كان يمثل المسيحيين العرب من ناحية كما كان يمثل كنيسة بيزنطة الأرثوذكسية من ناحية أخرى. ولقد نظن أن الوثيقة الجديدة ليس فيها جديد من جانب الفاتيكان الذى سار طوال القرون الثلاثة الأخيرة فى طريق الإصلاح واعترف بالأخطاء التى ارتكبها وارتكبتها محاكم التفتيش التابعة له فى حق العلماء وأصحاب الرأى وأصحاب العقائد المخالفة. وهذا صحيح إلى حد كبير. لكن الفاتيكان فى حركة الإصلاح هذه كان يصلح نفسه ويصحح موقفه من البروتستانت والأرثوذكس واليهود والعلم الحديث. أما موقفه من الإسلام ومن المسلمين كما عبر عنه فى وثيقة أبو ظبى، فهو موقف جديد يمكن أن ينعكس على موقف الأوروبيين من المسلمين المهاجرين ومن الإسلام عامة وعلى موقف المسلمين من أوروبا ومن المسيحية. ونحن قد نعتقد أن التعصب الدينى لم يعد له فى هذا العصر الحديث مكان فى أوروبا. وهذا صحيح إلى حد كبير، لكن التسامح الأوروبى يظهر فى تعامل الأوروبيين مع الأوروبيين، أما فى تعاملهم مع غيرهم، خصوصا مع العرب والمسلمين، فالأمر يختلف، لأن الأوروبيين ليسوا كلهم متسامحين، والتطورات السياسية قد تكون لها تداعيات طائفية لم نكن نتوقعها كما حدث فى البوسنة بين المسيحيين والمسلمين. والتعصب الوطنى قد يتحول إلى تعصب دينى يستند إلى ما حدث طوال العصور الماضية فى الفتوح الإسلامية، والحروب الصليبية، والحملات الاستعمارية فى هذا العصر الذى مازلنا نواجه فيه التعصب الأوروبى والأمريكى فى أقبح صوره متمثلا فى إسرائيل وفيمن يقفون إلى جانبها. ومازال الأوروبيون فى المقابل يواجهون داعش وغيرها من الجماعات والمنظمات التى تنسب نفسها للإسلام وتقتل وتدمر وتتاجر فى الرقيق باسم الإسلام. ومازلنا نحن نلعب دور الضحية مع هؤلاء وهؤلاء. فى فلسطين مع اليهود الصهيونيين، وفى سوريا والعراق مع المسلمين الدواعش! وثيقة أبو ظبى إذن ليست مجرد خطبة ولكنها موقف حاسم وصريح ضد التعصب الذى نرى بعض مظاهره ونتجاهل بعضها حتى نفاجأ بحادثة من حوادثه تذكرنا إياه. غير أننا نلعب دور الجناة أيضا، لأن التدين عندنا قد يتحول إلى تعصب وغلو يتلقى فيه الشباب المتحمسون دروسا تجعلهم جناة وتجعلهم ضحايا. إنهم ضحايا قبل كل شىء للاستبداد الذى حرمهم وحرم غيرهم من النشاط السياسى الحر الذى نحتاج له لنعرف قضايانا ونحدد مواقفنا ونحتكم لعقولنا ونتواصل مع غيرنا. وهم إذن الشباب المتحمس طاقة تنخدع بالتظاهر والتمثيل وتخضع للمتاجرين بالدين الذين يتحالفون بالضرورة مع المستبدين، وتمارس العنف المجانى وتتعرض له فى غير قضية وفى غير معركة، فى السفر والإقامة، وفى الوطن والمهجر. ووثيقة أبو ظبى إذن خطاب دينى جديد وخطوة عملية فى طريق الإصلاح وبداية عهد جديد ينفتح فيه العالم على المسلمين وينفتح المسلمون على العالم كما ينفتحون فى الوقت نفسه على صحيح دينهم. وهنا نعود إلى المقالة السابقة التى تحدثت فى ختامها عن وحدة الوجود التى لا ترى فى الكون إلا الله، ولا ترى فى الدين إلا جوهره الذى تتحددفيه كل الديانات على نحو ما رأينا فى شعر المتصوفة المسلمين. ليس فى الكون إلا الله، لأن كل ما فى الكون صادر عنه عائد إليه مسبح بحمده. والمتصوفة المسلمون لا يستندون فى هذا لفكرهم وحده كما فعل بعض الفلاسفة القدماء والمحدثين، وإنما يستندون أيضا لنصوص قرآنية فهو «.. الذي فى السماء إله وفى الأرض إله..» وهو الذى «..وسع كرسيه السماوات والأرض..». ولهذا ينكر الحسين بن منصور الحلاج على الناس أن ينظروا إلى السماء وحدها وهم يتجهون إلى الله فيقول: وأى الأرض تخلو منك حتى .. تعالوا يطلبونك فى السماء ! وكما أن الله واحد فالدين واحد، وهوالإسلام بمعنى التسليم بالوحدانية. وبهذا المعنى يقول نوح فى القرآن «.. أمرت أن أكون من المسلمين» ويقول موسى لقومه «.. عليه توكلوا إن كنتم مسلمين» ويقول الحواريون للمسيح «.. آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون». لمزيد من مقالات ◀ بقلم: أحمد عبدالمعطى حجازى