* لم تبد شاميما أى ندم على تجربتها مع داعش أو السفر إلى سوريا «أنا أخت من لندن... أنا فتاة مدرسة بيثنال جرين»، بهذه الكلمات عرفت شاميما بيجوم، البالغة من العمر 19 عاماً، نفسها لأنطونى لويد الصحفى فى صحيفة «التايمز» البريطانية، فى غرفة استقبال صغيرة فى مخيم الحول للاجئين الذى يضم نحو 40 ألف معتقل من عناصر «داعش» وأسرهم شمال سوريا. لم يصدق لويد للوهلة الأولى، فهو يبحث عن شاميما وزميلاتها منذ غادرن بيثنال جرين شرق لندن عام 2015 للعيش فى الرقة فى سوريا فى ظل ما يسمى «دولة الخلافة الاسلامية». فى ذلك اليوم، توجه انطونى لويد لمخيم الحول فى شمال سوريا مع مترجمه وكان السؤال الوحيد الذى يطرحه على القائمين على المخيم «هل لديكم بريطانية ضمن المحتجزين؟». ولساعات كان الرد: «لدينا أمريكيات وكنديات وفرنسيات، لكن ليس لدينا بريطانيات». لم يغادر لويد المخيم طوال اليوم وظل لساعات ممتدة يعيد السؤال المرة تلو الأخرى. ففى تقييمه «لابد أن تكون شاميما بيجوم هنا فى مكان ما». وبعدما تعب القائمون على المخيم من أسئلته، توجه أحدهم إلى الجانب المحتجز فيه النساء ونادي: «هل هناك أحد يتحدث بالإنجليزية مع هذا الصحفي؟». وبعد دقائق جاءت امرأة ترتدى النقاب ثم رددت على مسامع لويد هذه العبارة: «أنا أخت من لندن... أنا فتاة مدرسة بيثنال جرين». بهذا الاكتشاف بدأت مساعى شاميما العودة إلى بريطانيا بعد سقوط دولة داعش المزعومة واعتقال زوجها الهولندي. كانت شاميما تعتقد أن العودة لبريطانيا ستكون سهلة، لكن التطورات أظهرت أنها ستكون صعبة للغاية وقد لا تتحقق. هروب شاميما مع زميلاتها 2015 لأراضى داعش فى سوريا، روع بريطانيا. فلماذا تترك 3 فتيات متفوقات فى مدرستهن بريطانيا وأسرهن للعيش فى بلد لم يرينه أو يعرنه يمر بحرب أهلية طاحنة؟. وكيف تمت عملية غسل أذهانهن؟ وكيف كانت حياتهن خلال تلك السنوات؟. لا ندم طرح لويد هذه الأسئلة والكثير غيرها على شاميما خلال حواره معها، محاولاً فهم السبب وراء قرارها قبل 4 أعوام بترك أسرتها والهروب إلى سوريا للعيش فى الرقة والزواج من شخص من عناصر «داعش» لا تعرفه وهى ما زالت فى الخامسة عشرة من عمرها؟. وما قدمته شاميما خلال الحوار من إجابات قسم بريطانيا وحيرها وأثار غضبها أيضا. فبريطانيا خلال السنوات القليلة الماضية كانت ضمن البلاد الأوروبية التى تعرضت لهجمات دموية على يد عناصر منتمية أو مؤيدة ل «داعش»، أدت لمقتل العشرات وإصابة المئات، من تفجيرات مانشستر إلى هجمات ويستمنستر وما بينهما. وتفجير مانشستر فى مايو 2017 بالذات عالق فى الأذهان، فقد راح ضحيته 22 شخصا كلهم من الأطفال والمراهقين كانوا يحضرون حفلاً موسيقياً. لم تبد شاميما، التى أرادت العودة لبريطانيا فى أسرع وقت للعناية بطفلها حديث الولادة، أى ندم على تجربتها مع «داعش» أو السفر إلى سوريا لتكون ضمن «عرائس الجهاد» حيث قالت التجربة «غيّرتنى كشخص، جعلتنى أقوى، وأكثر صرامة». وتعترف، فى تلك المقابلة ومقابلات أخرى لاحقة مع قناة «سكاى نيوز» البريطانية و«بى بى سي» و«أى تى في» أنها لا تعتقد أن عمليات قطع الرأس التى قام بها التنظيم ضد جنود الجيش السورى أو معارضى داعش جرائم «لأنهم كفرة». كما قالت إن الهجوم على الحفل الموسيقى فى مانشستر كان «انتقاما» من «داعش» على استهداف عناصره بالقصف فى سوريا. واعتبرت أن جرائم اغتصاب اليزيديات فى العراق «ثأر» على «جرائم الشيعة». وتوضح أنها انجذبت لفكرة العيش فى أراضى تحت سيطرة «داعش» لأنها كانت تعتقد أنه سيتم الاعتناء بها، وسيكون لها أسرتها الخاصة و«تعيش فى ظل الشريعة الإسلامية». وتقول شاميما «فى البداية كان العيش فى ظل تنظيم الدولة الإسلامية شيئا لطيفا. لكن الأمور أصبحت صعبة بعد أن فقدنا الرقة واضطررنا إلى التنقل من مكان إلى آخر». ثم تعترف شاميما إنه سيكون من «الصعب حقًا» إعادة تأهيلها فى بريطانيا لأنها ما زالت تؤمن بعقلية «دولة الخلافة». وتابعت «سيكون الأمر صعباً للغاية بسبب كل شيء مررت به الآن. ما زلت نوعاً ما فى أجواء الطائرات التى تحلق فوق رأسي، وحقيبة الطوارئ فوق الظهر، والجوع وكل هذه الأشياء، أعتقد أنه ستكون صدمة كبيرة العودة إلى بريطانيا وبدء الحياة مرة أخرى». كما تعترف أنها لم تفكر فى العودة إلى بريطانيا إلا فى الأشهر الأخيرة فقط بعد خسارة «داعش» معظم أراضيها فى سوريا وتردى الأحوال. وطلبت شاميما من الحكومة البريطانية مساعدتها على العودة إلى بريطانيا للاعتناء بطفلها الثالث، بعدما توفى طفلان لها فى الرقة بسبب الأمراض ونقص التغذية. وأضافت أنها تعتقد أن «على الناس أن يتعاطفوا معى من أجل كل ما مررت به»، وأنه يجب أن يسمح لها الشعب البريطانى بالعودة «من أجل طفلها». وتقول إنها لم ترتكب جرائم وليس هناك أى أدلة ضدها «لم أفعل أى شيء خطير. كنت مجرد ربة منزل لمدة أربع سنوات، أعتنى بزوجى وأطفالي». كما أشارت إلى مخاوفها من عدم تمكنها من رؤية زوجها الهولندى ، ياجو ريدجيك، المعتقل حالياً لدى عناصر كردية من «قوات سوريا الديمقراطية»، مؤكدة حبها «الكبير» له. معضلات قانونية وأمنية: عدم شعور شاميما بالندم ورغبتها فى العودة لبريطانيا لتوفير الرعاية الصحية لطفلها حديث الولادة بعد انهيار «داعش» هو بالضبط ما يقسم بريطانيا. فهى فى نظر الكثيرين «خطر أمني» فادح وشخص غير جدير بالتعاطف. وعلى أرضية الغضب الشعبى العارم، جردها وزير الداخلية ساجد جاويد من جنسيتها وأبلغ أسرتها بالقرار كونها «مزدوجة الجنسية» لأنها تحمل بشكل آلى جنسية والديها وهما بنجلاديشى الأصل. ومع أن بنجلاديش أعلنت أنها لن تستقبل شاميما لأنها لا تحمل جواز سفر بنجلاديشيا ولم تزر البلد أبداً، إلا أن الداخلية البريطانية تؤكد أنها لن تسمح أيضاً لشاميما بالعودة لبريطانيا خوفا من قيامها بعمل إرهابي، أو تجنيدها متطرفين فى حالة دخولها السجن. فالسجون فى بريطانيا باتت مكانا معروفا للتجنيد. وتباينت ردود الأفعال داخل بريطانيا على قرار تجريدها من الجنسية. فقد أعرب عدد كبير من نواب حزب المحافظين الحاكم عن دعمهم قرار الداخلية، بينما تحفظ نواب من حزبى «العمال» و«الأحرار الديمقراطيين»، معتبرين أن القرار «يشكل سابقة خطيرة» وإن شاميما يمكن محاكمتها ومعاقبتها فى بريطانيا ووفقاً للقوانين البريطانية. لكن وزير الداخلية يقف على أرضية صلبة. فاستطلاعات الرأى تشير إلى أن 76% من البريطانيين يدعمون سحب الجنسية منها. فى المقابل، يصر تسنيم اكونجي، محامى أسرة شاميما على أن بريطانيا يجب أن توفى بالتزاماتها الدولية وتساعد فى إعادة شاميما. ويوضح ل «الأهرام»:أن «الأمر الآن متعلق بطفل حديث الولادة، ابن شاميما، الذى وضعته فى مخيم الحول. فأسرتها تريد استقدامه للعناية به. أما شاميما فستخضع للتحقيق والمساءلة وإذا ثبت تورطها فى جرائم ستحاكم بموجب القوانين البريطانية وليس بموجب أى قوانين أخرى». ويقول اكونجى إن الأسرة ستنظر فى كل السبل القانونية المتاحة للطعن فى قرار وزارة الداخلية، مستنداً إلى تأكيد شاميما أنه ليس لديها جواز سفر بنجلاديشي. أضافة إلى أن رفض بنجلاديش وهولندا استقبالها سيجعلها «بلا جنسية» وسيجبر بريطانيا على استعادتها. ووفقاً للقوانين البريطانية يمكن تجريد بريطانى من الجنسية إذا كان يحمل جنسية دولة أخرى، وإذا ارتكب جريمة خطيرة مثل الخيانة أو القتال مع الأعداء ضد القوات البريطانية فى وقت حرب. أما السبب الثالث، فيأتى تحت بند مكافحة الإرهاب وينص على أنه إذا كان هناك شخص مشتبه فى ارتكابه جرائم ارهابية فى بلد آخر، فيمكن مؤقتاً تجريده من الجنسية. وحتى الآن هناك نحو 100 شخص من عناصر «داعش» منعوا من دخول بريطانيا بموجب ذلك البند، لكن فى المقابل هناك نحو 420 آخرين تمكنوا من العودة إلى بريطانيا بعد انضمامهم إلى «داعش». هناك أيضاً عدة وسائل بيد وزارة الداخلية تمكنها من عرقلة عودة من انضموا لداعش أو سافروا لسورياوالعراق لبعض الوقت. ومن بين تلك الوسائل «المنع الاضطرارى المؤقت» وهو إجراء تتبعه الدولة فى بعض الحالات إلى أن تجرى تقييماً أمنياً دقيقاً حول الشخص المعني. وشاميما على الأرجح سيتم التعامل معها وفق هذا الإجراء. وبسبب رفض بنجلاديش وهولندا، بلد زوجها استقبالها حتى الآن، فإن بريطانيا قد تضطر فى نهاية المطاف إلى إعادتها. وإذا حدث هذا فمن المؤكد أنها ستواجه عدة تهم من بينها خرق القانون الذى يجرم عضوية منظمة إرهابية محظورة، وعقوبة تلك التهمة السجن عشر سنوات. ومع ذلك، فإن الأمور ليست أبيض وأسود. ففى غالبية حالات من عادوا إلى بريطانيا لم تتم محاكمة غير شخص واحد من أصل 10، بسبب صعوبة جمع الأدلة ضدهم. ويقول دنكان جاردهام الخبير الأمنى البريطانى إن «عدم شعور شاميما بأى ندم بعد هذه السنوات، سيكون مصدر قلق كبيرا للذين سيتعاملون معها عندما تعود من سوريا. ويتابع: «النساء لسن أقل خطورة من الرجال. فهناك مجموعات من النساء العائدات من سورياوالعراق حاولن شن هجمات فى بريطانيا. فقبل نحو العام كانت هناك مؤامرة لهجوم بالسكين فى ويستمنستر كل المتورطات فيها نساء قبل أن تكتشف السلطات المؤامرة وتحبطها فى المراحل الأخيرة». هناك تعاطف قليل مع شاميما فى بريطانيا لكن والدها نفسه الذى يعيش حاليا فى بنجلاديش بعد انفصاله عن والدتها غير متعاطف ويوضح ذلك بقوله «لاتستحق أن تعود لبريطانيا، لقد صدمت من افتقارها للندم وأنا فى صف الحكومة، وإذا قانون البلاد ينص على ذلك فأنا أوافق على ذلك» لكن الكثيرين أيضا يرون فى قضية شاميما فرصة لفهم كيف تم جذب آلاف الأجانب لأيديولوجية «داعش»، وفى رأى هؤلاء لا يجب النظر إليها بوصفها «ضحية» أو «مجرمة»، بل بوصفها «دراسة حالة» لظاهرة الأوروبيين المنتمين لداعش، وهى ظاهرة ما زالت تثير ارتباك وحيرة وغضب أوروبا.
«شاميما» فى سطور شاميما قبل انضمامها لداعش (أ.ب) مثل غيرها من أبناء منطقة بيثنال جرين فى شرق لندن، إحدى مناطق المجلس المحلى ل «تاور هاملت»، كبرت شاميما بيجوم فى منطقة تتميز بتعدد عرقى ودينى ولغوى وثقافى لافت. ولم يكن غريباً ان تسمع شاميما صوت الأذان، ففى المنطقة الكثير من المساجد. والمحال التجارية مرصعة باللغة العربية والأوردية وكلمة «حلال» على كل شيء. وفى تلك المنطقة التى يشكل المسلمون فيها 50%، والمسيحيون 34%، والباقى ديانات أخرى من بينها الهندوسية، لم يكن من النادر ارتداء الحجاب. ففى الحقيقة ينتشر الحجاب بشكل لافت فى المنطقة. وفى أسرة شاميما كانت والدتها وشقيقتها الكبري، ترتديان الحجاب أيضاً، وتلتزم بالواجبات الدينية وتحتفل بعيدى الأضحى والفطر وحلول رمضان. وثقافياً لم يكن المكان غريباً بالنسبة لشاميما، فالبريطانيون من أصل بنجلاديشى يشكلون 38% من سكان بيثنال جرين، وهم أكبر مجموعة عرقية فى المنطقة، يليهم البريطانيون البيض، 30%، ثم مجموعات عرقية أخرى من الأفارقة والبريطانيين من أصل كاريبي. السؤال الذى يشغل الكثيرين فى بريطانيا هو لماذا تركت شاميما كل هذا وتوجهت لأراضى غريبة بعيدة بحثاً عن أرض موعودة تدعى أنها «دولة الخلافة»؟. لماذا غادرت كما تقول هى بنفسها لتنظيم «يطبق الشريعة»، على حد قولها، وهى التى خرجت من منطقة تحفل بالتعدد والتنوع حيث يمارس الجميع شعائرهم الدينية والثقافية بحرية؟. ليس هناك تعاطف كبير مع شاميما فى المنطقة التى ترعرعت فيها حتى غادرت إلى سوريا فجأة. ويقول محمد سالوم، صاحب متجر فى المنطقة اعتادت شاميما على التسوق فيه مع والدتها، إنه يتذكر شاميما قبل سفرها ويوضح أنه فى مثل حالاتها يجب أن يُحترم قرار الحكومة، ويجب أن «يأتى الصالح العام أولاً». فتاتان بريطانيتان من أصول بنجلاديشية من أهل المنطقة تقولان إن مدرستهما حذرت الفتيات من تجنيدهن عبر الانترنت. وتقول إحداهن لمحطة «سكاى نيوز» البريطانية «فى الخامسة عشرة من العمر لابد أن لديك ما يكفى من الذكاء لتعرفى ان الانضمام لمنظمة ارهابية جريمة يعاقب عليها القانون. شاميما اختارت الذهاب إلى سوريا وأنا لا أتعاطف معها، لكن اتعاطف مع رضيعها». من يعرفون شاميما قبل أن تغادر، يقولون إنه لم يكن فى نشأتها ما يشير إلى ذلك التحول الدرامى فى شخصيتها. فخلال المقابلات الصحيفة معها بعدما اكتشفت «التايمز» مكانها، ظهرت شاميما شخصية باردة المشاعر، لا تقدر مأسى الآخرين، أو تكترث بحياة هؤلاء الذين قتلوا على يد «داعش». ففى إجابة كل سؤال كانت تجد «مبررا ما» لجرائمهم وكأنها ترى العالم بأعين «داعش». وبالنسبة لشقيقتها هذا صادم جدا، فهى قبل الهروب إلى سوريا كانت قد بدأت تشاهد الكثير من الفيديوهات عن «داعش» وعن «قتل الكفرة»، وباتت أكثر تطرفا ، لكن الأسرة لم تتصور أن هذا سيدفعها للمسار الذى سارت فيه. فهل شعرت شاميما بأن فرصها فى «دولة الخلافة» ستكون أفضل لأنها لن تكون أقلية؟. لا أحد يعرف على وجه الدقة كل العوامل التى قادت تلك الفتاة المراهقة عندما كانت تبلغ 15 عاماً لسرقة جواز سفر شقيقتها الكبري، وقطع تذكرة سفر لتركيا، والتواصل مع عناصر «داعش» ، ثم تقديم طلب زواج من «مقاتل داعشي» والزواج خلال 10 أيام فقط من وصولها. ولبعض الوقت، وحتى يتم معرفة دوافعها، ستظل شاميما لغزا يحير البريطانيين ويثير غضبهم وخوفهم من عودتها.