حالة من التفاعل الإيجابى، مع ما تم طرحه الأسبوع الماضى، فى افتتاحية العدد الخاص من مجلة «روزاليوسف»، بمناسبة ذكرى ثورة الشعب المصري فى 30 يونيو، حول أسباب عدم وجود «مشروع فكرى أو عقد اجتماعى» يوثّق ويؤصل لفلسفة الثورة ومبادئها وأهدافها، والظروف والمعارك التي انتصرت فيها، رغم مرور 12 عامًا على نجاحها. وما يُبشر، أن معظم ردود الفعل، أكدت على أهمية وحتمية وضرورية صياغة وثيقة تُعبر عن فلسفة ثورة 30 يونيو، ليس فقط للأجيال المعاصرة، التي عانت ما قبل الثورة، وعاشت أحداثها وانتصاراتها حتى الآن، وإنما للأجيال الجديدة، خصوصًا الذين لم يعاصروا أحداث الثورة، وبالتالى لا يدركون جيدًا لماذا خرجت ثورة 30 يونيو، للإطاحة بتنظيم الإخوان الإرهابى فى الداخل، وخصوم ناصَبوا العداء للدولة المصرية فى الخارج. والواقع أن التعاطى، مع هذا الطرح، جاء بشكل أساسى من سياسيين ونُشطاء ومثقفين، كانوا فى مقدمة الصفوف بثورة 30 يونيو، وهنا تتجلى عدة تساؤلات، تتعلق بالجهة أو المنصة أو الكيان الذي يمكن له أن يتولى مسؤولية إنتاج هذا المشروع الفكرى والمجتمعى المهم، ليكون معبرًا عن إرادة الشعب المصري فى ملحمة 30 يونيو، دون تأويل أو تحريف أو انتقاص. والحديث عن مدى الحاجة لمشروع فكرى، يحفظ لثورة 30 يونيو دورها الوطني الفريد، لا نستطيع أن نلقى بمسؤوليته على جهة رسمية أو مسؤول بعينه، لصياغته وتقديمه، كما أشرنا الأسبوع الماضى، وإنما هى مسؤولية النخبة المصرية المعاصرة؛ خصوصًا التي عايشت فترة ثورة 30 يونيو، فالغاية ليست مخاطبة الجيل المعاصر، ولكن الأجيال اللاحقة، قبل أن يأتى زمان لا يُدرك فيه الكثير، حقيقة ما حدث فى ثورة إنقاذ الوطن، فى 30 يونيو. وهنا يبدو التساؤل المهم: إذا أردنا أن نتبنى مشروعًا لميثاق ثورة 30 يونيو، يؤصل تاريخيًا وسياسيًا ومجتمعيًا وفكريًا لها، فمن الجهة التي يمكن أن تجمع تحت مظلتها النخبة المصرية، بشتى أطيافها، لإنتاج مثل هذا المشروع الوطني؟ لماذا الحوار الوطني؟ فلا يمكن أن تكون المسؤولية فردية، على شخص أو مجموعة مختصين، وإنما مسارًا تشارك فيه النخب المصرية، بمختلف شرائحها، وهنا تأتى منصة «الحوار الوطني»، لتشكل الخيار الأمثل لتبنى هذا المشروع، ولإنتاج وثيقة معبرة عن «فلسفة الثورة الجديدة». والواقع هناك العديد من الدفوع والأسباب التي تجعلنا نتحدث عن أهمية تبنى «الحوار الوطني» لمشروع الثورة، وأهمها: - يجمع «الحوار الوطني» تحت مظلته، مختلف النُخب المصرية، بداية من النخبة الحاكمة، والنُخب السياسية والحزبية، والنُخب المجتمعية، والنشطاء والسياسيين والمثقفين والمفكرين والأكاديميين والشباب، إضافة إلى تمثيل كبير من الألوان السياسية المختلفة، وبالتالى ما يقدمه يُعبر عن كتلة صلبة من المجتمع المصري. - تمتلك منصة «الحوار الوطني» قاعدة عريضة من خبراء ومختصين فى مختلف المجالات، والشاهد على ذلك، أن حجم المشاركات فى الجلسات العامة والمتخصصة للحوار الوطني فى مرحلته الأولى، وصل إلى 7320 شخصًا، وفق إحصائيات الأمانة الفنية للحوار الوطني، إضافة إلى ممثلين عن 65 حزبًا سياسيًا. - تضم لجان الحوار الوطني الرئيسية والنوعية، العديد من الشخصيات التي كانت ضمن «لجنة الخمسين»، التي صاغت دستور 2014، وهو الدستور الذي عبّر عن ثورة 30 يونيو وأهدافها، ووضع تأطيرًا مفاهيميًا لها، حيث عدّها «امتدادًا لمسيرة نضال وطني فى العصر الحديث، توّج بثورتين عظيمتين، وهى ثورة 1919، التي أزاحت الحماية البريطانية، وثورة 23 يوليو 1952». - استطاع الحوار الوطني، منذ إعلان الرئيس عبدالفتاح السيسى، عنه فى أبريل 2022، أن يدير نقاشًا حول حزمة من القضايا، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بمشاركة مختلف الاتجاهات المعارضة قبل المؤيدة، وما عزز من جديته ومصداقيته، استجابة القيادة السياسية الفورية لتوصياته المختلفة، وهنا نذكر مثلًا، الاستجابة لتوصيات مد الإشراف القضائى على الانتخابات، وتعديلات قانون الحبس الاحتياطى، وتعديلات قانون الإجراءات الجنائية وإجراءات الإصلاح الاقتصادى وأولوياته. وبالتالى نحن نتحدث عن الحوار الوطني، كمنصة تحظى بمصداقية لدى قطاع عريض من النخبة، يُمكنها من التصدى لمشروع وطني بحجم وثيقة 30 يونيو. رسالة إلى الحوار الوطني من هذا المنطلق، أخاطب مجلس أمناء الحوار الوطني، على أمل أن يضع ضمن أجندته، صياغة مشروع لفلسفة ثورة 30 يونيو، ليس فقط لصياغة أهدافها ومبادئها؛ وإنما لتوثيق ما لا يقل أهمية عن ذلك؛ خصوصًا الظروف التي خرجت فيها الثورة، ومعادلة الزمان والمكان والحقبة الدولية والميدان الذي خرجت فيه الثورة، وصولًا لنجاحها، إضافة لتأثيراتها الإقليمية والدولية، على إنهاء مشروع جماعة الإخوان الإرهابية بالمنطقة. ورسالتي هنا، من دافع مسؤولية، تفرض علينا أن نروى حقيقة ما حدث فى يونيو 2013، وكيف انتصر المصريون لهويتهم ودولتهم، ليس فقط فى مواجهة جماعة وتنظيم أراد أن يسلب إرادتهم، وإنما يمتد لخصوم ناصبوا العداء للدولة المصرية فى الخارج؛ وهى معركة تستحق أن تروى، لكل الأجيال المعاصرة واللاحقة، وخصوصًا جيل الألفية، أو ما يسمى جيل «Z». فالهدف الأساسى، ليس لمن عاصر حدث الثورة، ووجه الدولة المصرية قبلها وبعدها، وإنما للأجيال التي لم ترَ ما حدث، فكما تحدثنا الأسبوع الماضى، كثيرٌ من أجيال الشباب اليوم، كانوا أطفال الأمس، وكثيرٌ من تعقيدات وملابَسات خروج الثورة، ومنها جرائم تنظيم «الإخوان» بحق المصريين، لم تكن تُدركها تلك الأجيال وقت الثورة، وحتى الجيل الذي لم يكن قد وُلِد مع اندلاع الثورة، وبالتالى الحاجة لمشروع فكرى يؤصل ما حدث فى الثورة، ضرورة، حتى تتوارثها الأجيال، على غرار ما حدث فى ثورة 23 يوليو 1952. قد تكون هناك أولويات لدى الحوار الوطني، أعلنها أخيرًا، منها تنفيذ توجيهات القيادة السياسية، بتوسيع دائرة الحوار الوطني، ليشمل ملفات السياسة الخارجية، وتحديات اقتصادية داخلية وخارجية، بحكم واقع التطورات الإقليمية التي نعيشها خلال الأشهر الأخيرة. لكن الراصد والمتقصى لحقيقة الأمر، لا يمكن أن يفصل ما حدث فى 30 يونيو، 12 عامًا عن واقع تحدياتنا الحالية، ذلك أن الثورة تقدم لنا واحدة من دروسها، فى كيفية إنقاذ الوطن، من براثن الفوضى والانقسام والتشرذم وإنهاء كل ما هو دولة، كما يحدث فى دول جوار مباشر وغير مباشر، وتلك قيمة أخرى يجب أن تُروى فى وثيقة الثورة. ما أريد أن أقوله، إن مشروع وثيقة 30 يونيو، ليس بعيدًا عن واقع تحدياتنا، وعلى أولويات العمل الوطني، وإنما هو نص يجسد قصة دفاع المصريين عن هويتهم ودولتهم. ميثاق 30 يونيو ومرة أخرى، فإن الحديث عن ميثاق أو وثيقة لثورة 30 يونيو، ليس بدعة، بل نهج ارتبط بكثير من ثورات العصر الحديث، وأقرب مثال لذلك ثورة 23 يوليو 1952، التي أنهت حقبة الملكية وأسست للجمهورية، حيث ارتبطت بعديد من الوثائق التي أصّلت لأهدافها ومبادئها، إذ صاغ الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، مشروع الثورة كتاب «فلسفة الثورة»، بعد الثورة بعامين، كوثيقة فكرية قدّمت أركان الثورة الثلاثة، وهى: «التحرر الوطني، والعدالة الاجتماعية، والوحدة العربية». وإلى جانب ذلك، قدم عبدالناصر، بعد عشر سنوات من ثورة يوليو، وثيقة أخرى للثورة، حينما قدم فى المؤتمر الوطني للقوى الشعبية، فى 21 مايو 1962، وثيقة «الميثاق الوطني»، كدليل مكتوب تستند إليه الفئة الحاكمة فى توضيح موقفها السياسى والاجتماعى. ولذلك تأتى، رسالتي إلى الحوار الوطني، بأننا فى حاجة إلى مشروع «ميثاق 30 يونيو»، يتضمن مجموعة من المحددات سبق وأشرنا إليها، مشروع يروى معادلة الزمان، الذي اندلعت فيه الثورة، والظروف الدولية والإقليمية التي خرج فيها ملايين من الشعب المصري، ووزن الأقطاب الدولية وتأثيرها وأدوارها فى تلك الفترة، لتتضح مدى قوة وصلابة الإنسان المصري، ومعدنه الأصيل وقت استشعار الخطر، وقصة دفاعه عن هويته. مشروع، يوثّق ظرف المكان، الذي اندلعت فى محيطه الثورة، وكيف كانت طبيعة وضع الإقليم الذي تعيشه مصر فى تلك الفترة، وطبيعة النظام الدولى، والاستهداف الذي كانت تتعرض له دول الجوار المباشر وغير المباشر، ثم ما حدث فى المنطقة بَعدها. مشروع ينص على حزمة المبادئ التي تحظى بإجماع وطني، بداية من استقلال القرار الوطني، وامتلاك القدرة وقوى الدولة الشاملة، مع التأكيد على التزامات الحرية والعدالة الاجتماعية والتعددية. فى حاجة لمشروع، يترجم سياسة التوازن الاستراتيجى فى علاقات مصر الخارجية، ويؤكد على أولويات دوائر التحرك المصري إقليميًا ودوليًا، بداية من الدائرة العربية أولًا، ثم الدائرة الأفريقية ثانيًا، والدائرة الإسلامية ثالثًا، والدائرة المتوسطية، ثم المجتمع الدولى، وكل دوائر حققت مصر فيها حضورًا خلال السنوات الأخيرة. نحن فى حاجة إلى ميثاق، يُعبر عن حقيقة الشخصية المصرية، فى ثورة 30 يونيو، والنموذج الفريد الذي قدمته تلك الثورة، بمشاركة مختلف شرائح المجتمع من احترام التعدد، والاختلاف، والوسطية وتقدير للمرأة وللشباب، ورفض مساعى طمس الهوية واحترام النسيج الوطني. نحن فى حاجة إلى ميثاق، يُشير للصراعات الحقيقية فى المنطقة والقوى الطامعة، وكيف تعاملت الدولة معها، ميثاق، يروى ما حدث على أرض مصر، من إنجاز وتنمية امتدت لكل مكان دون تفرقة، وكيف حافظت مصر على قدرتها على العمل والبناء والتطوير، رغم حملات التضليل والتشكيك. والأهم من ذلك، نحتاج إلى ميثاق يصحح الكثير من المفاهيم المغلوطة عن الثورة، خصوصًا ما تتداوله صفحات منسوبة لجماعة الإخوان الإرهابية وعناصرها، على منصات التواصل الاجتماعى، لنقدم الثورة فى سياقها الصحيح، كثورة شعب، خرج فيها الملايين بشتى طوائفهم وفى مختلف ميادين المحافظات، وحتى لا تكون الأجيال الجديدة، أسيرة ما تروّجه صفحات الإخوان على «السوشيال» ميديا فقط. لا نريد أن ننتظر أكثر من ذلك، فبعد 12 عامًا من الثورة، وما شهدته من مسيرة للتنمية والإصلاح، يجب أن نحفظ لثورة 30 يونيو حقها، كثورة فريدة، ليس فقط أنقذت البلاد من عداءات داخلية وخارجية؛ وإنما أسّست لبناء دولة حديثة عصرية، «الجمهورية الجديدة». وللحديث بقية 1 2 3