سعى محمد على، بعد التخلص من نخبة المشايخ والأعيان، إلى بناء نخبته الجديدة التى شكّلت أداة من أدوات حكمه؛ فمن خلال خريجى المدارس التى أنشأها «الباشا» والبعثات التى أرسلها إلى الخارج، بدأت هذه النخبة فى التشكل والعمل فى خدمة النظام القائم، وأصبحت النخبة منذ ذلك الحين ترتبط بحبل سرى بالحاكم القابع بالقلعة ثم القصر. وداخل صالونات القصر الملكى وفى حضرة الأميرة ثم الملكة «نازلى»، زوجة الملك فؤاد أم الملك فاروق، تزاحم أفراد النخبة المصرية بكل أطيافها، بداية من سعد زغلول، ومروراً بالشيخ محمد عبده وانتهاءً بقاسم أمين. ومن المطبخ الملكى خرجت الكثير من الأفكار التى تبلورت حولها خريطة الفكر الليبرالى قبل يوليو 1952. فالنخبة التى سيطرت على الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية قبل عام 1952 كانت ترى فى نفسها جزءاً من مركب السلطة الحاكمة. يكفى أن نشير فى هذا السياق إلى نموذج أحمد لطفى السيد. يشير «لطفى السيد»، فى مذكراته، إلى أنه رأى أن تكون جريدة «الجريدة» ملكاً لشركة من الأعيان أصحاب المصالح الحقيقية فى البلاد، وقد كانت «الجريدة» لسان حال حزب الأمة الليبرالى الذى أسسه أحمد لطفى السيد، ذلك الرجل الذى تعددت ألقابه، وكان من بينها: «أستاذ الجيل» و«أبوالليبرالية المصرية». لم يستنكف «لطفى السيد»، الذى يصح أيضاً أن نسميه «أبوالنخبة المصرية» من الحديث عن أن أصحاب المصالح الحقيقية فى هذا البلد هم الأعيان من ملاك الأرض. ولعلك تدرك أن النظام الاقتصادى فى مصر قبل الثورة ارتكز على الزراعة وتصدير الحاصلات الزراعية الاستراتيجية مثل القطن، وكان كبار ملاك الأرض حينذاك هم رجال الاقتصاد وصناع القرار فى حياة وأرزاق المصريين، وكان أكبر مالك للأرض هم ملوك وأمراء الأسرة العلوية (أبناء وأحفاد محمد على). هكذا كان يرى أبوالليبرالية المصرية أن النخبة المثقفة لا بد أن تعمل لحساب أصحاب المصالح الحقيقية (أعيان البلاد) وليس لحساب الحرافيش أو العوام أو الذعار! هذا المشهد تم استنساخه بصورة كاملة من جانب النخبة المدنية التى ظهرت داخل المشهد المصرى أيام حكم «مبارك». فقد ارتبطت هى الأخرى برباط وثيق بالطغمة الحاكمة، ودافعت عن رموز الحكم دفاعاً مريراً، مع وجود أصوات أخرى مناوئة ومعارضة للحكم بالطبع، ظهر فيما بعد أن خلافها مع مبارك لم يكن مداره فلسفة الحكم، وإنما على تهميش دورها، تدلل على ذلك مواقفها بعد موجة الثورة الثالثة فى 30 يونيو. ولعلك تذكر كيف كانت رموز النخبة المدنية تحجم -قبل ثورة يناير- عن الدخول فى أى نوع من العداء مع أصحاب المصالح الحقيقية فى البلاد، ليس من الأعيان (ملاك الأرض) هذه المرة، ولكن من رجال الأعمال. وإذا كان الملك فاروق هو أكبر مالك للأرض قبل يوليو 1952، فقد كان «مبارك» وابناه أكبر رجال أعمال فى مصر قبل يناير 2011، فى ظل واقع اقتصادى كان النشاط الأصيل لأى رجل أعمال يتحدد فى «السمسرة»!