الليبراليون العرب يبحثون عن الجنة وهى تحت أقدامهم..مثلهم مثل آدم الذى راح يبحث عن شجرة الحياة وهو فى جنة الخُلد..أغراه إبليس ببريق التفوق فاستبدل الذى هو خير بالذى هو أدنى..الليبراليون العرب أيضًا يبحثون عن منهج للحياة وعندهم عقيدة، والمنصفون منهم يقولون نأخذ من منهجهم ما يناسب عقيدتنا فيفعلون مثل الذى يحاول أن يمزج الزيت بالماء، خذ عندك قضية الحرية، هل حرية الليبرالية تساوى أو تكافئ أو حتى تعادل حرية الإسلام؟! السؤال خطأ لأن القاعدة التى تنطلق منها الحريتان مختلفة وهذا ما لا يتصوره الليبراليون.. قاعدة الحرية فى الإسلام تنطلق من أن الإنسان ليس سيد هذا الكون ولكنه مستخلف فيه. هو عبد لخالق الكون ثم سيد على باقى المخلوقات، أما الليبرالية فتقول إن الإنسان هو السيد المطلق ولا سيد غيره على الكون والمخلوقات. ( 1) الخطيئة الأخرى التى وقعت فيها الليبرالية العربية هى أنها ولدت فى حجر الاستعمار وتحت رعايته وتشجيعه.. وبعد جيل الرواد الأوائل الذين حاولوا تفسير الليبرالية على خلفية الثقافة والتراث الإسلامى جاء جيل آخر وبدأ تاريخ جديد فى طور الليبرالية العربية والمصرية تحديدًا يمكن أن نؤرخ له مع بداية القرن العشرين. وأبرز الأسماء فى هذا الجيل بعد د.طه حسين كان أحمد لطفى السيد المفكر والكاتب والسياسى. .. فى عام 1907 أصدر لطفى السيد وآخرون جريدة «الجريدة» التى حملت أفكاره وأفكار أقرانه للتحديث على النمط الغربى الأوروبى، وشهد نفس العام ميلاد الأحزاب السياسية المصرية حين سمح الاستعمار الإنجليزى بذلك فأنشأ أصحاب «الجريدة» حزب الأمة ليعبر عن فكر ومصالح طبقة الصفوة وكبار الأعيان وملاك الأراضى وفكر الليبرالية المصرية، وانطلق الحزب وجريدته يروجان ويشيعان أن الاحتلال ليس سببًا لضعف الأمة ولكنه بمثابة انعكاس لهذا الضعف(!!) هكذا قال المؤرخون عن الحزب ومنهم د.يونان لبيب رزق بينما يكشف القطب الليبرالى المعاصر د.أسامة الغزالى حرب أن لطفى السيد ورفاقه من مؤسسى حزب الأمة كانوا من أنصار المنهج المعتدل والإصلاحى فى التعامل مع الاحتلال البريطانى لذلك شجعهم اللورد كرومر المندوب السامى للاحتلال على إنشاء الجريدة والحزب سعيًا إلى موازنة أو التقليل من التيار الوطنى الجارف الذى قاده مصطفى كامل، ونعت (هذا التيار) بالتطرف والتعصب، وفى ذلك لم يكن من الغريب أن يقترن التوجه نحو الوطنية المصرية الرافضة للسيادة العثمانية بالتوجه نحو العلمانية والليبرالية. (2) عام 1922 شهدت مصر وضع مسودة أول دستور لها وفقًا لتصريح 28 فبراير 1922 وصدر الدستور بالفعل فى العام التالى واشتهر بدستور 23. تكونت اللجنة التى وضعت الدستور من 30 عضوًا كان أحمد لطفى السيد واحدًا منهم، وكان هناك أيضًا محمد حسين هيكل وحافظ عفيفى وعدلى يكن، وباقى المجموعة التى انشقت عن وفد سعد زغلول وأنشأت حزب الأحرار الدستوريين وفى أذهانهم فكرة رئيسية وهدف كبير هو الترويج للأوضاع الجديدة التى سوف تنشأ على أثر تصريح 28 فبراير الذى أصدرته بريطانيا ورفضته كل القوى الوطنية والشعبية فى مصر لأنه باختصار يبيع وهم الاستقلال الزائف لمصر، ويدعو لفصلها عن دولة الخلافة الإسلامية وهى فكرة كانت مرفوضة فى هذا التاريخ بينما يطلبها ويروج لها الليبراليون ومنهم أحمد لطفى السيد الذى كان يرى أن هوية مصر فرعونية وليست إسلامية. لكن هناك ثمة ما يدعو إلى الخجل فى سيرة أحمد لطفى السيد ورفاقه ليس على مستوى العمل الوطنى والسياسى فقط ولكن على مستوى الالتزام الأخلاقى أيضًا، هذا الخجل الذى يداهمك حين تطالع ما ورد فى مؤلف د.أحمد زكريا الشلق الصادر عن دار الشروق منذ عامين تقريبًا بعنوان «الأحرار الدستوريون 1922 - 1953» والمؤلف يتابع من خلال وثائق بريطانية ومصرية تاريخ الحزب منذ نشأته وحتى اختفائه من الحياة الحزبية بالحل عام 1953 لينتهى الكاتب فى خاتمة كتابه إلى الآتى: «أظهرت هذه الدراسة الفجوة بين البرامج التى طرحوها وأخذوا على عاتقهم الالتزام بها وبانجازها وبين الممارسة العملية». ويؤكد أيضًا المؤلف أن أعضاء الحزب كثيرًا ما كانوا يضمون بالبرامج والمبادئ الأخاذة على مذبح الولاءات الشخصية وإرضاء الزعامات بنفس القدر الذى كان يغض الطرف فيه عنها طمعًا فى كسب الرضا السامى أحيانًا وثقة المحتل الحليف أحيانًا أخرى. باختصار كان لطفى السيد يرى فى الغرب حليفًا سياسيًا ونموذجًا اجتماعيًا يرفضه فى العالم الإسلامى. (3) ورد فى الموسوعة البريطانية الآتى: «نادرا ما توجد حركة ليبرالية لم يصيبها الغموض بل أن بعض هذه الحركات تنهار بسببه. هل يمكن أن يصدق القول السابق على حزب الوفد أيقونة الليبرالية المصرية والعربية خلال النصف الأول من القرن العشرين؟! الوفد كان رمزا للوطنية المصرية - لا شك - فى فترة العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضى، وكان زعيمه سعد زغلول الليبرالى يمثل الرمز الكاريزمى للزعامة الوطنية المصرية فى حال ظهوره، هذا الرمز الذى امتد فى خلفه مصطفى النحاس، لكن فى تاريخ الوفد هناك إشكالية كبيرة تتمثل فى التوفيق بين مبادئ الحزب الليبرالية والموقف من الحركة الصهيونية.. وهذا ما لم ينتبه له كثيرون من المفكرين والمؤرخين (حسب ظنى). وفى البداية لم ينخدع فقط الوفديون فى هذه الحركة التى كانت تخطط لاختطاف فلسطين من جسد الأمة العربية وحدث أنه قبل شهور من اندلاع ثورة 1919 بقيادة سعد زغلول ورفاقه مر الزعيم الصهيونى حاييم وأيزمان على مصر فى إحدى رحلاته إلى فلسطين وتم استقباله بحفاوة بالغة من يهود مصر وقد كان لهم حقوق على أساس المواطنة.. ورحب به أيضاً شيخ الأزهر فى هذا التاريخ وتبرع بمائة جنيه مصرى للمنظمة الصهيونية العالمية التى كان يرأسها وايزمان(!!) وبمبادرة من يهود الإسكندرية تأسس صندوقا لجمع التبرعات ليهود فلسطين ولجان أخرى عديدة لجمع التبرعات وردت فى قوائمها عدد ليس بقليل من أسماء سيدات المجتمع المصرى ورجاله من الأثرياء. وكانت علاقة يهود مصر بالقصر فى عهدى الملكين فؤاد وفاروق علاقة جيدة أيضاً لكن ما بال الوفد الخصم اللدود للاستعمار والقصر معًا؟! (4) تصف د. سهام نصار المتخصصة فى الصحافة علاقة اليهود بحزب الوفد بأن الصهيونيين منهم كانوا من أشد فئات اليهود المصريين حرصاً على الانضمام إلى حزب الوفد والعمل فى صفوفه فى حين ابتعدت عنه الرأسمالية اليهودية التى تحالفت مع القصر والإنجليز.. وفيما كانت الأحداث تتصاعد فى فلسطين منتصف الثلاثينيات ويتزايد أعداد المهاجرين اليهود إليها وتندلع فيها الثورات كان حزب الوفد «الليبرالى» مازال يفكر ويدرس ترشيح يهود فى الانتخابات العامة (1936) على قوائمه من منطلق حقوق المواطنة الليبرالية بينما يفكر الطرف الآخر فى أية طريقة للوصول إلى البرلمان المصرى لإيصال صوتهم والتأثير على السياسة المصرية تدعيماً للمشروع الصهيونى.. وهكذا تفكر دائمًا الامبريالية والاستعمار وينخدع الأبرياء الليبراليون.