تحتفل الجامعة الأمريكيةبالقاهرة بعيدها المئوى هذا العام، فيما احتفلت الجامعة الأمريكية فى بيروت بمائة وخمسين عاما على تأسيسها قبل ثلاث سنوات. عمر الجامعة الأمريكية فى بيروت مرة ونصف مرة أطول من عمر نظيرتها فى القاهرة، ومن الطبيعى أن يكون إسهام جامعة بيروت أكبر من إسهام جامعة القاهرة، لكن العمر وحجم الإسهام ليس هو الفارق الوحيد بين الجامعتين. يأتى الفارق بين الجامعتين الأمريكيتين الأكبر فى العالم العربى من الفارق الكبير بين السياقين اللبنانى والمصري؛ فبينما سمح السياق اللبنانى للجامعة الأمريكية باندماج الجامعة فى نسيج المجتمع، وتقديم إسهام جوهرى فى التطور الاجتماعى والفكرى والسياسى فى لبنان والمشرق منذ فترة مبكرة، فإن السياق المصرى أبقى الجامعة الأمريكية على هامش نسيجه الاجتماعي. تضم قائمة الخريجين البارزين من الجامعة الأمريكية فى بيروت عددا كبيرا من كبار الساسة والمسئولين، بما فى ذلك تسعة عشر من أعضاء الوفود المشاركة فى مؤتمر سان فرانسيسكو الذى تم فيه التوقيع على ميثاق منظمة الأممالمتحدة, ومنهم ثمانية من أعضاء الوفد العراقي، وستة من أعضاء الوفد السوري، وثلاثة من أعضاء الوفد اللبناني، وواحد من كل من السعودية وإيران. الجامعة الأمريكية فى بيروت هى جامعة مشرقية، أثرت فى كل بلاد الشرق الأدنى، وتاريخها وإسهامات خريجيها تحكى تاريخ المشرق كله، وليس تاريخ لبنان فقط. تأسست الجامعة الأمريكية فى بيروت عام 1866 على يد مبشرين بروتستانت. حملت الجامعة اسم الكلية البروتستانتية السورية حتى عام 1920، عندما تحول اسمها إلى الجامعة الأمريكية فى بيروت. عند تأسيسها، لم تكن معاهد التعليم العالى معروفة فى لبنان ولا المشرق كله، فكانت الجامعة الأمريكية هى أول مؤسسة أكاديمية يتم إنشاؤها وفقا لتقاليد التعليم الغربى فى المنطقة، فكانت أعجوبة زمانها، والوجهة التى ذهب إليها الراغبون فى التعليم من أبناء الطبقات الميسورة فى بلاد المشرق المختلفة. تأسست الجامعة الأمريكية على يد مبشرين بروتستانت، وساعد عدم وجود طائفة بروتستانتية يعتد بها فى المشرق على تطور الجامعة الناشئة كمؤسسة علمانية غير طائفية، مما زاد جاذبيتها للطلاب من أبناء الطوائف المختلفة. تأسيس الكلية البروتستانتية السورية شجع طوائف مسيحية أخرى على تأسيس جامعات تابعة لها فى العقود التالية, أما أول جامعة وطنية تابعة للدولة اللبنانية فلم تتأسس حتى عام 1951. على العكس من ذلك فقد تأسست الجامعة الأمريكية فى القاهرة فى عام 1919 بعد أكثر من تسعين سنة من تأسيس مدرسة الطب، أقدم مؤسسات التعليم العالى فى مصر، والتى تأسست فى عام 1827، ليتبعها فى غضون العقد التالى عشر من المدارس العليا المتخصصة فى الألسن والصيدلة والمعادن والمحاسبة والصنائع والزراعة والبيطرة والهندسة، بخلاف المدارس العسكرية التى تخرج فيها ضباط جيش محمد على باشا. بدأت الجامعة الأمريكية فى القاهرة بداية خجولة فى بلد يمتلك تقاليد ومؤسسات تعليم عريقة، فيما كانت نظيرتها فى بيروت تفتح للمشارقة عهدا وعالما جديدا من المعرفة. وبينما كانت الجامعة الأمريكية أول جامعة غير حكومية فى مصر، وظلت الجامعة الخاصة الوحيدة فى البلاد لأكثر من ثلاثة أرباع القرن؛ فإن جامعات الدولة تظل هى الاستثناء فى لبنان الذى تهيمن عليه مؤسسات التعليم العالى الخاصة التابعة للطوائف وللمستثمرين الساعين للربح. تأسست الجامعة الأمريكية فى بيروت عندما كانت بيروت ولاية عثمانية، ضمن الولايات الكثيرة التى صنعت معا إقليم سوريا الكبرى، فيما لم يكن الكيان اللبنانى قد ولد بعد. كان من الطبيعى أن تجتذب الجامعة طلابا من فلسطينوسوريا والأردن، وحتى من العراق الواقع بعيدا إلى الشرق، والذى تأخر تأسيس الجامعات فيه كثيرا عن جيرانه من الأقاليم السورية. على العكس من ذلك فقد خدمت الجامعة الأمريكية فى القاهرة القلة من الطلاب المصريين الذين اختاروا الجامعة الأمريكية الخاصة على جامعات الدولة المصرية التى تمتعت لسنوات طويلة بقوة جذب لا تقاوم بين الطلاب المصريين والعرب من الخليج إلى المحيط. أسهمت الجامعة الأمريكية فى بيروت فى الإحياء الثقافى والحراك السياسى فى المشرق العربى منذ فترة مبكرة, وعندما سادت المنطقة التيارات العروبية الراديكالية، كانت الجامعة الأمريكية فى بيروت هى مسقط رأس حركة القوميين العرب، التى شكلها مجموعة من الطلاب المتحلقين حول الأستاذ الجامعى والمفكر القومى البارز قسطنطين زريق، ومن بين هؤلاء الطلاب برزت أسماء لامعة من أمثال جورج حبش وهانى الهندى ووديع حداد وأحمد الخطيب. على العكس من ذلك لم تسهم الجامعة الأمريكية فى القاهرة بشكل مهم فى الحراك الفكرى والسياسى فى مصر. لقد نشأ الفكر المصرى الحديث على يد الإصلاحيين من الأزهريين، ومن بينهم برزت أسماء حسن العطار ورفاعة الطهطاوى ومحمد عبده. فى مرحلة لاحقة انتقل مركز ثقل الفكر المصرى الحديث للجامعة المصرية، التى تأسست أولا كجامعة أهلية قبل تأسيس الجامعة الأمريكية بأكثر من عقد من الزمان، ومنها برزت أسماء قامات كبرى من أمثال طه حسين وأحمد أمين وزكى نجيب محمود وجمال حمدان وحامد ربيع ونصر حامد أبو زيد، وكلهم انشغلوا بمسألة القراءة العصرية للموروث الإسلامي, أما التيار المادى العلمانى فى الفكر المصرى الحديث فقد مثله لبنانيون من خريجى الجامعة الأمريكية فى بيروت، ومن أشهرهم شبلى شميل ويعقوب صروف. فقط فى ربع القرن الأخير بدأت الجامعة الأمريكية فى القاهرة فى الظهور كمركز مؤثر فى الواقع السياسى والاجتماعى المصري، فقدمت تعويضا جزئيا للنقص الناتج عن تراجع جامعات الدولة. ومع هذا فإن أساتذة الجامعة الأمريكية الأكثر تأثيرا فى الفكر المصرى وإسهاما فى نقاشات المجال العام، من أمثال سعد الدين إبراهيم وبهجت قرنى والراحل جلال أمين، هم من خريجى الجامعات الوطنية، وإن كانوا يحاضرون فى الجامعة الأمريكية, والمؤكد هو أن الجامعة الأمريكية تسهم بشكل قوى فى تكوين طبقة المديرين والمستثمرين المصريين أكثر بكثير من إسهامها فى تكوين طبقة منتجى الفكر والثقافة فى البلاد. لمزيد من مقالات ◀ د. جمال عبد الجواد