هذا العام تمر على تأسيس الجامعة الأمريكية في بيروت 150 سنة بالتمام والكمال . ولقد احتفظت الجامعة وهي واحدة من أعرق وأهم المؤسسات التعليمية في عالمنا العربي بتسميتها الأولى «الكلية السورية البروتستاتنية» الى عام 1920. وبعدها اتخذت اسمها الشهير. وفي لبنان والمشرق العربي جدل لاينتهي حول الماضي الكولونيالي الاستعماري للجامعة ومدي ارتباطها بالتبشير المسيحي. وهذا استنادا الى دور مؤسسها ومديرها الأول «دانيال بليس». لكن يصعب إنكار الأهمية العلمية والمعرفية للجامعة الأمريكية في بيروت, وكون أن العديد من الاسماء اللامعة في تاريخ الفكر والثقافة والأدب بل والسياسة تخرجت في كلياتها وعملت بالتدريس بها، وحتى ممن ينتسبون الى مدارس القومية العربية واليسار. ونكتفي هنا في مجال الفكر والسياسة بأن نذكر هشام شرابي وانطون سعادة (من الحزب القومي السوري الاجتماعي) وجورج حبش ( الجبهة الشعبية, وهو تنظيم ماركسي فلسطيني ) . هذا فضلا عن أسماء جمهرة من أدباء اللغة العربية, من جورجي زيدان الى أمين معلوف وربيع جابر وحليم بركات وغيرهم. ومع أن الشاعر والناقد السوري «أدونيس» لم يتخرج في الجامعة الأمريكيةببيروت، لكنه عندما تحدث عن ذكرياته وصف مكتبة الجامعة بأنها «الاكتشاف الأكبر» منذ قدومه الى بيروت. وقال إنه كان يزورها منذ الستينيات . والمكتبة وأرشيفها بمنزلة ذاكرة جامعة عمرها قرن ونصف القرن لكنها مفتوحه أيضا على المستقبل . والآن هناك أكثر من مكتبة داخل حرم الجامعة الذي يشغل مساحة من ربوة «رأس بيروت» المطلة على البحر . وتتوزع العديد من مكتبات العلوم هناك بين الكليات وداخلها الى الأسفل باتجاه مياه المتوسط . لكن المكتبة / المكتبة تلك التاريخية والرئيسية والتي تحوي المعارف العامة والآداب والانسانيات لا تبعد كثيرا عن مدخل الجامعة الرئيسي بشارع « بليس «, وغير بعيدة تماما عن شارع «الحمرا» الشهير. وهي تشغل مبنى كبيرا جرى تشييده عام 1951 بعدما انتقلت اليه. ويفيد تاريخ المكتبه أنها بدأت على يد البروفسير « بورتر» استاذ التاريخ في عام 1870 .. اي بعد أربع سنوات فقط من تأسيس الجامعة عام 1866. ولقد قضت المكتبة عمرها السابق على مبنى 1951 تشغل مساحات من المبنى الرئيسي التذكاري « كوليدج هول «، والذي يعود الى سبعينيات القرن التاسع عشر. وهو المبني ذاته الذي أعيد بناؤه وافتتاحه عام 1999 بعدما تعرض لانفجار مدمر في نوفمبر عام 1991. 400 ألف كتاب في خمسة طوابق يستقبلك مبني المكتبة الرئيسية للجامعة بتمثال نصفي من الرخام الأسود لمن أعاد تأسيسها «شديد نعمة جافت» ومنحها من ماله وخزانة كتبه. وهو من الرعيل الأول من خريجي الجامعة. ويقال إن للرجل سجالات وحوارات مع الشيخ الإمام محمد عبده . ويتكون المبني من سبعة طوابق منها اثنان تحت الأرض . ورفوفه تحمل ما يزيد على 400 ألف كتاب وتشغل حتى الآن خمسة طوابق كاملة, ومعها نحو ستة آلاف جريدة ودورية مطبوعة. ويبلغ عدد الرسائل العلمية (ماجستير ودكتوراه والمشروعات البحثية) في مكتبة الجامعة نحو الآلاف العشرة . هذا فضلا عن وسائط عرض لمخزون من الكتب والمطبوعات الالكترونية يفوق 800 ألف عنوان بإحصاءات عام 2015. ويضاف اليها نحو 145 ألف دورية إلكترونية, وإتاحة للنفاذ الى 250 بنك معلومات وقاعدة بيانات في مختلف أنحاء العالم . وفي الطابق الأرضي العديد من القاعات التي تسهم في إرشاد الزائرين وتسهيل وصولهم الى المصادر والمراجع. وهي تتوافر على المعاونين المتخصصين وأجهزة الكومبيوتر والوسائط الحديثة . وهذا فضلا عن قاعات للبحث والاطلاع, وكذا لتعليم كيفية البحث على أسس علمية مكتبية. كما يحتوى الطابق الأرضي على قاعة كاملة للقواميس والمعاجم التي لايمكن استعارتها. وأيضا أرشيف للجرائد والمجلات والدوريات الورقية ويعود بعضها الى عام 1850، كمجلة «الحقيقة» العثمانية التي كانت تصدر من بيروت. وفي هذا الطابق أيضا قاعة للدوريات الانجليزية, وجناح كامل للأرشيف والتوثيق تشعر عندما تدخل قاعته الرئيسية بأنك في ورشة عمل تعالج الأوراق والوسائط الأحدث . وللمصادفة وجدت العمل على قدم وساق في ترميم ملصقات « آفيشات» لأفلام مصرية تعود الى الخمسينيات والستينيات, وأيضا في تجليد الكتب . الأرشيف: القلب النابض قلب ذاكرة مكتبة الجامعة الأمريكية هنا هو قسم الأرشيف الذي تحول من غرفة بالمكتبة الى قسم كامل مع عام 1991. وتبلغني مديرته والمسئولة عنه « كوكب شبارو « أن الاهتمام بالتوثيق نشأ مع مولد الجامعة عام 1866, ومنذ وضع وثائق انشائها في حجر زاوية مبني « الكوليدج هول». كما جرى حفظ يوميات المؤسسين, بمن في ذلك « بليس», ومراسلاتهم ومحاضر اجتماعات مجالس الجامعة المتعاقبة. وتضيف قائلة :«لعل المواد الارشيفية عن مرحلة التأسيس وماتلاها أفضل على مستوى التوثيق من فترات مثل عقدي الأربعينيات والخمسينيات. وهذا لأسباب لا نفهمها». وعن المجموعات التي يحتويها القسم توضح « شبارو :» هناك الأرشيف الخاص بالجامعة ذاتها كمؤسسة, من أساتذة وطلاب ومناهج وادارة وخريجين؛ ومرصد جوي هو الأول في لبنان ( يعود الى عام 1870)؛ وصور تؤرخ للحياة الجامعية هنا . وهناك مجموعات ملصقات تؤرخ للأنشطة والمواقف الطلابية على مدى خمسين عاماً داخل جدران الجامعة, فضلاً عن توثيق للملصقات السياسية على الجدران الخارجية للجامعة فى أثناء الحرب الأهلية بلبنان ( بين 1975 و 1990). وهي تسمح بفهم الحركة الطلابية والسياسية من أقصى اليمين الى اقصي اليسار .. لبنانية وفلسطينية «. مخطوطات جورجي زيدان وتقول « شبارو» :» لدينا مجموعات من الأوراق المخطوطة لمفكرين عرب كجورجي زيدان ( مؤسس مجلة الهلال المصرية ) و السوري قسطنطين زريق والمؤرخ اللبناني أسد رستم وغيرهم «. ولقد اتضح لي لاحقا بالبحث الالكتروني في المكتبة أن قائمة مخطوطات زيدان لدي الجامعة تحتوى على رسائل شخصية بين عامي 1901 و 1914 , وملاحظاته عن البعثات التي أرسلها محمد على باشا والي مصر للتعلم في أوروبا, و مخطوط لأنساب العرب في الجاهلية, وأوراق بآرائه وأبحاثه التاريخية عن الأدب العربي قبل الاسلام وعن لغة العرب, ومخطوط لقصة عن مصر القديمة . وهذا على أي حال ليس سوى جانب من نحو 1400 مخطوط نادر لدي الجامعة الأمريكيةببيروت ، علاوة على نحو 1900 خريطة, العديد منها نادر أيضا. وثمة- وفق ماتقوله «شبارو»- مجموعة ملفات معلومات عن شخصيات عديدة، من عدة بلاد وبخاصة من العالم العربي, وليس اللبنانيين فحسب. وهذا علاوة على مجموعات صور نادرة تعود الى نهاية القرن التاسع عشر توثق لتاريخ مدن المنطقة. ويقدر مخزون أرشيف الصور لدي الجامعة بنحو 70 ألف صورة. وتضيف شبارو :» العديد من المجموعات يحمل اسم المصورين أو المقتنين مثل مجموعة (بلاتشفورد ) والتي تضم أكثر من 800 صورة لمعالم من مصر وفلسطين والأردن ولبنان وسورية وتونس ومدن أوروبية بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين «. وقد أهدى أرشيف المكتبة ثلاث صور منها- عن القاهرة والاسكندرية- للنشر في «الأهرام « مع النص . كما تشير « شبارو « الى مجموعة صور باسم «هوارد بليس « نجل مؤسس الجامعة وكان يهوى السفر والترحال والتصوير . هذا علاوة على مجموعات صور أخرى للأخوين اللبنانيين « عبد الله «, و « لاكجيان « الأرمني العثماني, و» بونفيس « الفرنسي . وتضيف :» وردت أخيرا نحو 20 ألف صورة عن لبنان قبل الحرب الأهلية ( أي قبل عام 1975) بعدسة اللبناني الأرمني مانوج «. نصوص وصور للمسرح المصري لكن « شبارو» تلفت النظر الى أن ارشيف المكتبة يضم مجموعة صور نادرة للمسرح العربي وبخاصة من مصر تقع في 20 البوما، وبعضها يعود الى عشرينيات القرن الماضي . وأيضا الى مجموعة نصوص مسرحية مصرية جمعها اللبناني الدكتور « يوسف نجم»، وتعد مرجعا للمسرح المصري والعربي وتؤرخ له . وبعضها مخطوطات بأقلام كتاب مسرح مصريين. كما يعمل أرشيف المكتبة على استكمال مجموعات ملصقات ( آفيشات ) للأفلام العربية القديمة مع صور فوتوغرافية فى أثناء تصوير هذه الأفلام ، وأغلبها مصرية بالطبع . وهناك مجموعات ملصقات توثق لتاريخ لفن في لبنان . وعن المخطوطات العربية النادرة تقول «شبارو» إن هناك ما يعود منها الى العصور العباسية والفاطمية والمملوكية والعثمانية، وأقدمها مخطوط باللغة السريانية يُعتقد انه يعود الى القرن الثامن الميلادي .وهو نسخة من الإنجيل أشتهرت باسم « بيروت كوديكس» أي «مجلد بيروت». كما تحتوى المكتبة- وفق ما تقوله مسئولة قسم الأرشيف- مطبوعات باللغة العربية في أوروبا تعود الى القرن السادس عشر, أى مع بداية ظهور المطبعة؛ وكتب مطبوعة في مختلف انحاء المشرق العربي, بما في ذلك مطبعة بولاق المصرية. وهي كلها تؤرخ لبدايات الطباعة عند العرب. ويقدر عدد الكتب القديمة في مكتبة الجامعة الأمريكيةببيروت بنحو سبعة آلاف كتاب ، ومن بينها « وصف مصر « الصادر عن علماء الحملة الفرنسية . ويعمل أرشيف المكتبة وفق شبارو على مشروعات عدة ، ومنها جمع وتوثيق الشهادات الشفاهية للجيل الأول من اللاجئين الفلسطينيين الى لبنان ( تاريخ شفاهي) .وكذا مشروع توثيق تاريخ صحافة الأطفال في العالم العربي ،بما في ذلك المجلات الصادرة في مصر . وآخر لتوثيق تاريخ الشرائط الفيلمية العربية المصورة للأطفال . أعداد « الأهرام» منذ 1884 وتفيدنا «سمر ميقاتي « وهي أمينة مكتبة بقسم الأرشيف بأن المكتبة تحتفظ بأعداد جريدة « الأهرام « عبر الميكروفيلم منذ عام 1884 والى أيامنا هذه. كما أن المكتبة قامت بتوثيق كافة أعداد صحف « الحياة « و» النهار» و « السفير « إلكترونيا ، وقامت بوضع 27 مخطوطا تقتنيها على شبكة الإنترنت بعدما حولتها الى رقمية . وتضيف: «نجمع ونصنف مجموعات بطاقات بريدية قديمة ( كروت بوستال) من مصر ولبنان وسوريه وأوروبا والعديد من دول العالم. ولدينا مجموعة ملفات الأمينة السابقة للمكتبة ( ليندا صدقة ) عن التاريخ السياسي للمنطقة ولبنان. وهي مرجع مهم عن الأحزاب خلال الحرب الأهلية اللبنانية. كما لدينا مجموعة عليها طلب متزايد من الباحثين توثق للمنشورات السياسية التي توزعها حركات احتجاجية في لبنان على مدى عقود». ولكن كم يقدر عدد زوار المكتبة وما أهم مشروعات المستقبل ؟ .. عن هذه الاسئلة تجيبنا «مني عاصي « مديرة قسم الأنظمة فتقدر الزوار في السنوات الأخيرة بمتوسط مليون زائر كل عام. وتشير الى خطط للتصوير الإلكتروني لكل تراث الكتب العربية بالتعاون مع جامعة نيويورك مع مراعاة حقوق النشر. على هذا النحو بدأت وانتهت جولتنا في ذاكرة جامعة عمرها 150 عاما.