قال لى الدكتور أحمد زويل الحائز على جائزة نوبل فى الكيمياء عام 1999: إنها مسألة الإنسان والمكان. كان الحديث يدور حول ثنائيّة البشر والتنمية. ثم حكى لى الدكتور زويل هذه القصة القصيرة: كنتُ فى زيارة إلى ماليزيا.. والتقيتُ رئيس الوزراء الدكتور مهاتير محمد، وكان يشرح لى رؤيته للإنسان والاقتصاد فى تجربته. قال لي: لم يكن ممكنًا إعادة تخطيط بلادنا دون إعادة تخطيط المجتمع. كان لابّد من وضع حدٍّ للتفاوت الاجتماعى والخلافات الدينية والعرقيّة.. وكان لابّد أيضًا من أن تشعر القوميات الماليزية بالتَّساوى فى بلد متحضِّر يعمل لصالح كلّ مواطنيه.. كما كان من الضرورى للغاية أن يمتلك الجميع قوة الأمل. إنّ قرار بناء أبراج بتروناس لتكون أعلى ناطحة سحاب فى العالم وقتها.. كان الهدف منه أن يتأكد الإنسان الماليزى أنّنا جادّون فى الانطلاق.. كانت غايتنا ألّا ينظر الماليزيون إلى أسفل حيث صراع الإثنيّات والأديان بل أن يتطلّعوا إلى ذلك الارتفاع الشاهق حيث يوجد الأمل.. ليس الهدف أن يصل المبنى الماليزى إلى السحاب.. بل أن يصعد تفكير الإنسان الماليزى إلى هناك. لقد تذكرتُ حديث حائز نوبل - أكثر من مرة - أثناء زيارتى إلى اليابان.. ذلك أن هذا بالضبط هو ما سبق أن فعلته اليابان. فبعد الهزيمة الكبرى فى الحرب العالمية الثانية.. وبعد أن تحطَّمت طوكيو وتلاشت هيروشيما ونجازاكي.. وارتبكت كيوتو وأوساكا.. واهتزت كل اليابان بزلزال الهزيمة.. لم يكن ممكناً إعادة ترميم اليابان دون ترميم اليابانيين أنفسهم. نجحت اليابان فى علم النفس وعلم الاجتماع قبل أن تمضى إلى علوم الفيزياء والرياضيّات. إن نظام التعليم التوكاتسو قد أسهم كثيرًا فى خلق الإنسان الجيّد لدى اليابانيين الجُدد. كما أنَّ النخبة السياسية والاقتصادية قد تمكَّنت من عبور الهزيمة إلى إعادة بناء قيم العمل والسلام. إنَّ اليابان بلا موارد تقريبًا، بل إنها تواجه ما يمكن تسميته الفيزياء المعادية.. حيث تنشَط الطبيعة الغاضِبة باستمرار.. عواصف وزلازل وبراكين. إنَّ اليابانيين هم اليابان.. الإمبراطورية اليابانية ليست الأبراج ولا القطار الرصاصة.. ليست شركة سونى أو تويوتا.. كما أنها ليست كاميرات كوداك ولا الذكاء الاصطناعي.. إنها - برأى النخبة اليابانية - بناء المهارات والقيم. حين زرت مدينة كيوتو - العاصمة القديمة - والمقصد السياحى الكبير.. اصطحبنى صاحب مصنع للمنتجات اليدوية إلى حيث يعمل أولئك العمال المهرة. إنهم يصنعون تحفًا رائعة بأياديهم.. قد يمكث العامل عدة سنوات لأجل إنتاج قطعة فنيّة واحدة. وبينما أنا أراقب تركيز العمال فيما بين أياديهم.. شاهدتُ رجلًا مُسِّنًا يعمل وكأنَّه لا يرانا. سألتُ عنه.. قال لى صاحب المصنع.. إنَّه يعمل هنا منذ سنوات، وهو متميّز جدًا.. إنَّهُ تجاوز الخامسة والسبعين من عمره، ولكنّه يعمل مثل شاب فى الخامسة والعشرين. إن الحياة لا تنتهى عند الستين، ومعظم سائقى التاكسى الذين شاهدتهم فى هيروشيما من كبار السن. ويصل عدد المسنين الذين تتجاوز أعمارهم المائة عام إلى نصف المليون نسمة. لا ينهزم اليابانيون فى سن الثمانين أو التسعين.. يتجوّل كثيرون فى حياتهم اليومية من دون الحاجة إلى عونٍ أو سندٍ. يصطحب كبار السن أصدقاءهم ويعبرون الإشارات ويقطعون الشوارع وكأنهم زملاء فى مدرسة ثانوية. إن إرادة الحياة عند اليابانيين يجب أن تكون ملهِمة للآخرين حول العالم. لا تعمل اليابان بطريقة اليوميّة.. لا تسيطر النثريّات والمتفرقات على رؤية النخبة. بل تسود الرؤى والكليّات. إنها تعمل من الموجود والمتاح. السياسة فن الممكن.. واليابان بلد الممكن. إنها تصنع من الأشياء الصغيرة الأحلام الكبيرة. حين تهدّمت الكثير من المدارس بعد الحرب.. جاءت ظاهرة فصول السماء الزرقاء.. حيث جرى تعليم التلاميذ فى الشوارع باستخدام سبّورة بسيطة. ولمّا زرتُ المتحف الرقمى فى طوكيو.. فى جزيرة أودابيا.. فوجئت أن تلك الجزيرة الصناعية قد تم بناؤها بالمخلّفات والعديد من المكونات التى لا استخدام لها. وحين التقيتُ مسئولين فى تنظيم أوليمبياد طوكيو 2020.. عرفتُ منهم أن الكثير من الملاعب سيتم تشييدها، ثم تفكيكها بعد نهاية الأوليمبياد. ثمّة كلمة يابانية معبِّرة للغاية Mottainai - موطّاى ومعناها خسارة. «خسارة أن تترك».. «خسارة أن تهدر».. يجب أن تستفيد قدر الإمكان. فى العاصمة القديمة كيوتو زرتُ شركة بوكودور للحفظ والترميم. لقد تأملت طريقة السيد ياساهيرو.. تأملت أدواته وفريقه.. ذلك الصمغ الذى يجرى تخميره لأكثر من عقد كامل من الزمان.. وأولئك الذين يتعاملون مع كل نانومتر من اللوحة باهتمام شديد. إن الصبر والدقة واليقين.. كانت كلها جزءًا من عملية إعادة قيم الإنسان التى قام بها اليابانيون إزاء أنفسهم بعد الحرب العالمية الثانية. اليابان دولة رأسمالية اقتصادياً لكنها ليست رأسمالية اجتماعيًا.. الشهرة لا تعنى الكثير. كما أن الثراء وحده لا يضع الشخص فى منزلة كبيرة. تتحقّق المكانة المرموقة للشخص من خلال العمل الذى يقوم به فى خدمة المؤسسة والمجتمع. المحترمون هم الأشخاص النافعون.. وليسوا الأثرياء أو المشاهير. ولحسن حظ اليابان فإنّ الإعلام يعمل على ترسيخ وحماية هذه القيم. لا تخلو اليابان من التحديات.. فقد أدت الثورة الرقمية إلى صعود الصين وكوريا الجنوبية فضلاً عن الولاياتالمتحدة.. بينما تأثرت المكانة الأسطورية لشركات مثل سونى وباناسونيك وهيتاشى التى لم تواكب الإبداع الرقمي.. بالقوة الكافية. كما يعانى المجتمع اليابانى من تراجع مساحة المشاعر والعاطفة أمام طغيان الثورتين الصناعيتين الثالثة والرابعة. لكن اليابان تدرك تحدياتها المستجدّة كما أدركت تحدياتها السابقة. تدرك اليابان تلك المعادلة الحضارية: المعنى قبل المبني، والبشر قبل الحجر. انحنتْ اليابان مستسلمةً أمام الجنرال الأمريكى ماك آرثر ذات يوم لتقول: نعم. كانت وقتها دولة محطّمة تحيا بلا أمل. وبعد سنوات عاد الإنسان والاقتصاد.. وعادت الدولة أقوى ممّا كان. والآن.. وبعد ثلاثة أرباع القرن، وبينما اليابان ثالث اقتصاد فى العالم.. تبدأ طوكيو بناء أول حاملة طائرات منذ الحرب العالمية الثانية.. ليعود إلى الواجهة من جديد عنوان ذلك الكتاب الشهير لمؤسِّس شركة سونى (أكيو موريتا): اليابان يمكنها أن تقول لا. لمزيد من مقالات أحمد المسلمانى