فى تحديد أسباب الثورة تبرز ضرورة كشف زيف فرية دور الاستعمار البريطانى فى تنظيم الأوضاع المالية وتحقيق الازدهار الاقتصادى؛ وهى الفرية التى تذكرنا بخطاب النفاق، الذى ردده الغرب من قبل عن تحديث ونهضة بلداننا فى مشروعه الاستعمارى عبر احتلالها ونهبها، والذى يردده من بعد عن ثورات حماية حقوق الإنسان فى مشروعه للهيمنة عبر توظيفه للفاشية التكفيرية بقيادة جماعة الإخوان لتفكيك وتركيع بلداننا. وأسجل، أولا: قيمة صادرات القطن بين عام 1850 وعام 1880، أى قبل الاحتلال، قد زادت الى ما يقرب من عشرة أمثالها، وزادت قيمة تجارة مصر الخارجية بنحو أربعة أمثالها, بالاستفادة من التطوير الهائل لمنشآت الرى، حيث تضاعف شق الترع واتسعت شبكة الرى, وتضاعفت كل من المساحة المزروعة والمساحة المحصولية. وفى ظل الاحتلال البريطانى ارتفعت المساحة المحصولية نتيجة التوسع فى أعمال الرى ، من 4762 ألف فدان فى عام 1879 الى 7712 ألف فدان فى عام 1913 ، وارتفع محصول القطن من 2723 ألف قنطار فى عام 1888 الى 6544 ألف قنطار فى عام 1897 ثم الى حوالى 7664 ألف قنطار فى متوسط الأعوام من 1903 الى 1914، وتضاعفت قيمة التجارة الخارجية لمصر من نحو 24 مليون جنيه فى عام 1897 الى نحو 55 مليون جنيه فى عام 1907. لكن ما تحقق تحت الاحتلال لم يستهدف سوى مضاعفة انتاج وتصدير القطن فى مزرعته مصر، التى لم تتمكن بعد بعقود من الاحتلال من إقامة حتى صناعة تجهيز القطن ولا أقول تصنيعه، وهو ما يتضح من أن نسبة ما تم حلجه وكبسه من القطن لم يتعد 10% من المحصول حتى عام 1913. وثانيا، إن مصر قبل الاحتلال حققت سبقا تاريخيا على الصعيد العالمى فى إنشاء خطوط السكك الحديدية، حيث اكتمل إنشاء أول خطوط السكك الحديدية لنقل البضائع والركاب بين القاهرة والإسكندرية فى عام 1856، وحققت مصر سبقا تاريخيا على الصعيد العالمى فى إنشاء خطوط السكك الحديدية ، وتوسع انشاء خطوط السكك الحديدية فيما يسميه البعض بعصر السكك الحديدية فى مصر، حين زاد طولها- خلال العقود الثلاثة السابقة للاحتلال البريطانى- من 275 ميلاً فى عام 1850 الى 1185 ميلاً فى عام 1880. وقد تضاعف طول خطوط السكك الحديدية الرئيسية تقريبا خلال العقدين التاليين للاحتلال البريطانى، حيث ازداد من 1519 كيلو متراً فى عام 1881 , الى 1865 كيلومتر فى عام 1891 , ثم الى 2953 كيلومتراً فى عام 1913، لكن هذا لم يستهدف أيضا سوى توفير خدمات النقل اللازمة لتصدير القطن من مزرعته فى مصر الى مصنعه فى انجلترا. وثالثا، لم يكن الاحتلال البريطانى بدافع الرغبة فى تنظيم أوضاع مصر المالية. وبذريعة ضمان حقوق الدائنين تم إنشاء صندوق الدين العام منذ عام 1876 تحت الإدارة الأجنبية, وفرض على مصر تعيين وزير إنجليزى للمالية ووزير فرنسى للأشغال العامة فى الوزارة المصرية عام 1878, ثم تقرر استبدالهما برقيبين أحدهما إنجليزى لإيرادات الدولة والآخر فرنسى لمصروفاتها, وذلك تحت ضغط الثورة العرابية فى عام 1881. وقد اعترض وزير المالية الإنجليزى على مطالبة مجلس النواب بحقه فى إقرار الميزانية؛ حتى ولو كان هذا الحق مقصوراً على المصالح التى لم تخصص إيراداتها لخدمة الدين العام، وكان هذا تمهيداً للاحتلال البريطانى الذى أطاح بمجلس النواب، ووضع الميزانية العامة ومالية الدولة فى قبضة الإدارة البريطانية المطلقة وإن تستر بهيئات نيابية استشارية, صنعها بديلا لمجلس النواب، وضمت المهادنين للاستعمار. ورابعا، إن قيمة ما جرى تحويله من مصر بين عامى 1862 و 1914 قدر بنحو 270 مليون جنيه فى شكل مدفوعات سداد فوائد الدين العام الخارجى، وأرباح البيوت التجارية، وعوائد أسهم الشركات المساهمة.. الخ, بينما لم يتعد ما تم تصديره من رؤوس الأموال للاستثمار فى مصر نحو 160 مليون جنيه؛ وبلغت خسارة مصر الصافية من رؤوس الأموال بحوالى 110 ملايين جنيه. وباضافة خسائر التبادل التجارى غير المتكافىء، والذى قدر بحوالى 117 مليون جنيه، فان اجمالى ما خسرته مصر من أموال كان يمكن أن تتاح للاستثمار فى عملية التصنيع والتنمية الاقتصادية نحو 227 مليون جنيه, فى الفترة المذكورة. ويظهر أثر هذا النهب إذا عرفنا أن اجمالى الاستثمار الأجنبى المباشر فى الصناعة والبناء حتى عام 1914 كان أقل من 11 مليون جنيه؛ أى أن ما تم نهبه من مصر بلغ نحو 22 مثل قيمة الاستثمار الأجنبى فى الصناعة والبناء فى الفترة المشار اليها . ووصل صافى ما تدفق من الخارج الى مصر من قروض عامة بنحو 77 مليون جنيه بين عامى 1884 و1914, بينما لم تتعد تكلفة اقامة خزان أسوان, الذى مثل أهم بنود الاستثمار العام فى تلك الفترة , نحو 3 ملايين جنيه؛ أى أقل من 4 % من القروض العامة. وخامسا، إن البنك الأهلى المصرى، الذى تأسس بمساهمة ثلاثة أشخاص جسدوا تاريخ النشاط التجارى الربوى لرأس المال الأجنبى الوافد والمقيم فى مصر، فى مقدمتهم المليونير البريطانى سير ارنست كاسل، قام بالدور الرئيسى فى عقد القروض الخارجية العامة التى تمت بعد الاحتلال، ومنها الدين المضمون, الذى استدانته الحكومة المصرية لتعويض الأجانب عن الدمار الذى ألحقته المدفعية البريطانية بممتلكاتهم فى الاسكندرية لدى احتلال مصر!! وكان أول محافظ للبنك هو سير ألوين باير؛ المستشار المالى البريطانى للحكومة المصرية, وهو أحد المنصبين الذين حلا محل الوزيرين ثم الرقيبين الانجليزى والفرنسى المفروضين على مصر بعد احتلالها. وواصل البنك عملية النهب المالى لمصر بدوره فى مجال صنع السياسات النقدية والائتمانية استنادا الى قيامه بدور البنك المركزى. ومن ذلك قيامه بإصدار أوراق البنكنوت المصرية بتعليمات من بنك انجلترا لتغطية نفقات القوات البريطانية وحلفائها فى مصر. وبذلك تراكمت الديون المصرية على بريطانيا, التى تمثلت دفتريا فى أرصدة استرلينية مملوكة لمصر واحتجزت فعليا لدى بنك انجلترا ! وللحديث بقية. لمزيد من مقالات د. طه عبدالعليم