من السهل أن تكون قاتلًا، لكن ليس من السهل أن تكون شريرًا، ذلك لأن الشر له استعدادات ومواصفات، وله درجات، فهناك شر يصل بك لحبل المشنقة، وشر يخرب البيوت العامرة، وشر يعيق طريقك فى الحياة، وشر لابد منه، تجده فى كل مكان حولك، وكل ما عليك فعله هو أن تتأقلم مع هذا الشر. ومن هذا الشر، مهدت لنا « إحسان شريف» طريقها السينمائى إلى قلوبنا، شر مجانى، تجده فى غمزة عين، ورعشة شفاه، وسحنة وجه متغضن، وإماءة رأس، شر متواجد فى حياتنا اليومية، ونلتقى به دون مبرر ودون سبب، شر يعيق حركتنا، ويغلق بدايات أيامنا، أو يطمس أى ابتسامة أو فرحة تغزو قلوبنا. ............................................................. إحسان شريف، الوجه الثقيل، والشابة العجوز، وكأنها خرجت من أحد النقوش الفرعونية على أحد جدران معابدنا القديمة، الوجه القديم المنحوت الممصوص بأنامل فرعونية، وكأنها تربت بين يد كهان أحد تلك المعابد، لا تتحدث إلا بمقدار، وقد لا تتحدث مطلقًا، لكنها تقول ما لا تستطيع كتب أن تصفه. إنها ملكة الشر الطيب، توزعه فى كل خطوة تتحرك به، حتى لو قالت لك صباح الخير، فلن تقولها بطريقه مريحة، بل ستقلق من طريقة قولها، وتجعلك تتساءل وتفكر مرات: لماذا قالتها والطريقة التى قالتها بها؟. هذه العانس العجوز التى كانت ترعب أى شخص، بصفتها «رئيفة - العانس» أخت الباشا القاسِى «عزيز - زكى رستم» أو «عمو عزيز» فى فيلم «أين عمرى»، تلك العانس الخالدة فى ذاكرتنا السينمائية، بحركتها البطيئة وكأنها أفعى تتسحب داخل جدران السرايا، تنظر لك فى أثناء الأكل ولا تتحدث، تطل على حركتك من الشرفة فتقلق من طلتها، تتابعك بنظراتها وتحاصر جسد «ماجدة» المنطلق فى عفوية، وعندما تتحدث تعلم أن هذا البيت حتمًا سينفجر وتتحطم أركانه. لقد وضعت «إحسان شريف» بهذا الدور للعانس مواصفات جديدة وغريبة، فهى ليست باحثة عن رجل، وليست مرغوبة كأنثى، ولكنها تخرج هذا الشر أو الكراهية لكل بهجة حولها، وكأنها سجان العزوبية أو مسجونة دائمة لهذه الشخصية الفريدة. هذه هى «إحسان شريف» التى ولدت بالقاهرة فى عام 1921، وتخرجت فى مدرسة حلوان الثانوية وعملت مع فرق الهواة، حتى انتقلت فى الثلاثينيات للفرق الشهيرة مثل نجيب الريحانى وعلى الكسار، وقد اكتشفها زكى طليمات وتزوجها، وعملت معه فى أدوار التراجيديا المسرحية، وما إن انفصلوا حتى انتقلت إلى السينما عام 1947 بفيلم «هدية» مع محمود ذو الفقار. ولقد أدت أدوارًا صغيرة فى السينما والمسرح. وخلال هذه الأدوار الصغيرة لا يمكن لنا أن ننسى وجهها أو حركتها كأنثى خبيرة وقاسية القلب، خاصة فى فيلم «الطريق المسدود»، فقد كانت جافة دون حياة، قاسية خالية من المشاعر، مفزعة وهى تلقن «فايزة - فاتن حمامة» الوافدة الجديدة على المدرسة والقرية بمجموعة صارمة من الأوامر، وفى الحقيقة هى لا تقدم لها الأوامر بقدر ما تقدم لنا طريقتها القاسية للحياة، أو لطردها بمعنى أدق، فهى تكرهها مجانًا ودون أى مبرر، ربما لأن وجه فاتن حمامة المبتسم يضايق وجهها العابس. لقد قدمت «إحسان شريف» دور الناظرة ببراعة شديدة، تجسد قسوة مشاعرها الداخلية، وجفاف روحها، نظارتها الغليظة التى تلتهم نصف وجهها، شعرها المتناسق المشدود بشدة للخلف، الملابس المحتشمة حتى نصف رقبتها، والوجه الخالى من أى مساحيق أو أى ابتسامة وبالتالى جفاف قلبها من أى حياة. فهى تخبر البطلة فايزة - ودون أن تقول لها: «اما أن تعيشى هكذا أو تغادرى هذا المكان فورًا، ولقد جعلت من تلك الشخصية نموذج تناولته جميع الفنانات بعدها. لكن هذا الشر وتلك القسوة، جاتء لها وقت أن تتفتت على صخرة « المخرج «فطين عبد الوهاب» فى فيلم «إشاعة حب» لتدخل قلوبنا فورًا، فهو يريدها هكذا، شريرة، ومتعالية، وصاحبة نفخة كذابة، بل ومتسلطة أمام زوجها المغلوب على أمره «يوسف وهبى». إن شخصية «بهيجة بنت سلطح باشا» شخصية حقيقية لأبعد الحدود، شخصية ماكرة، ومنغصة حياة من حولها، تكشف لك تاريخ عائلتها الوضيع أو الهش، تفتخر به فى شمخة الأنف، وفى اختلاق ماض وهمى، وبتعاليها على الجميع بطهيها غير المفهوم ونوعيات للأطعمة لا تستطيع أن تأكلها، لكن هذا الشر أحببناه، فلم تكن شريرة بقدر ما أظهرت لنا وجها من وجوه الشر لم نكن نعرفه، وبطريقة كوميدية لم تتكرر، والغريب أن عمرها فى هذا الدور لم يكن يتخطى الأربعين عامًا، ومع ذلك قدمت لك سيدة ارستقراطية متعالية عجوزا. بهذا الفحيح المجانى الذى تبخه فى كل مكان، تشكل « إحسان شريف» عوالمها فى ذاكرتنا، كحماة صامتة ولا يعجبها العجب، لتظل مصمصة الشفاه طوال أحداث فيلم «أم العروسة» مصمصة قوية ومزلزلة للمشاعر، بل وتكاد تعبر لنا إنها تستطيع بمصمصة واحدة أن تطيح بتلك الزيجة، إنها الحماة التى تختلق العدو دون مبرر، ودون أن تنطح زوجة ابنها المستقبلية بإحدى اللكمات، هى تطل بعيونها العميقة كبئر جاف، وبشفاه جافة خالية من أى بهجة. إنه نموذج موجود فى جميع عائلاتنا المصرية، الذى لا يعجبه العجب ولا الصيام فى رجب، لا ينطق ولا يتحدث، لكنه يتفجر فى وجوهنا بعدم الرضا، وعدم الراحة. وفى فيلم «الناصر صلاح الدين» قدمت دور «الراهبة أو راعية الكنيسة» التى تنتقد صلاح الدين الأيوبى وجنوده بشدة بعد أن حرر مدينة القدس، طالبه منه ولأنها أم الفتاة التى اختطفها جنود «كمشتكين بن الدانشمند»، لتشكو بلهجة عنيفة للناصر صلاح الدين، وحين ينصفها بتحرير ابنتها من يد الجنود، تقوم بدق أجراس الكنيسة، جعلت من أصوات الأجراس بهجة تغلف مدينة السلام التى تستقبل جنود صلاح الدين، وقد حصلت بهذا الدور على جائزة أحسن ممثلة مساعدة. ومع كل الثوابت التى قدمتها «إحسان شريف»، تأتى لنا بدور آخر جديد، وهو السيدة الصعيدية فى رائعة صبرى موسى وحسين كمال « البوسطجى»، فهى «أم أحمد» الداية والدلالة والبائعة المتجولة، العجوز والموشومة فى ذقنها، عيونها الغارقة فى الكحل الأسود تزيد من قسوة نظراتها، وهى حاملة خطابات الحب بين «جميلة وخليل» لدرجة تجعل «عباس البوسطجى» يرتعب بأن تكون هذه «الكركوبة» صاحبة قصة حب وتنتظر مراسلات لها، وعندما يأمرها بالتوقيع، فتخرج له الختم، ليكتشف كل شيء، وتكشف تاريخها الذى لم تقله، كامرأة ليل، أو امرأة غير سوية تستطيع تسهيل أشياء كثرة فى تلك القرية الغارقة فى الجهل. إن «أم احمد» الكركوبة، كسيدة صعيدية، بنظرة واحدة تخبرك بماضيها المختفى خلف ردائها الأسود، لذا ترتعب وهى تسير بجوار الجدران فى تلصص إلى أن تصل لشباك «البوسطجى- عباس»، وتنظر لعباس فتكشف عن امرأة خبيرة فى الحياة السرية لتلك القرية، فتناوله الختم وتناغشه بكلمة مما يصيبه بالخبل، فيقول: «بقى الست الكركوبة دى، يقول لها حد، حبيبى، نور عينى»، فيكتشف الحقيقة إنها تعمل بوستة بمفردها داخل القرية، وهو ما تحمله مهنتها بصفتها داية وبائعة متجولة فى القرية. وقبل رحيلها فى عام 1985، أدت دور الحماة التى تريد تزويج ابنتها «زينات» «بعطية يحيى الفخرانى» فى فيلم «خرج ولم يعد»، ولكنها لا ترضى عن تلك الزيجة أو مكان السكن الذى ستسكن فيه ابنتها، لأنه آيل للسقوط، لذا فإن عينيها خلف النظارة كفنجانى قهوة، متسعتان تقرأ فيهما مصير البطل، الذى يجب عليه أن يهرب قبل أن يسقط فى هذه البئر الخربة، خاصة عندما تقدم له «العدس» كطعام، فتخبره بطريقتها ونظرات عيونها ان هذا مصيره ومصير تلك الزيجة. لقد تعلمنا من «إحسان شريف» الكثير، تعلمنا منها أن النظرة بحساب، والكلمة بحساب، وعندما ندقق فى عيونها، سوف نصاب برعب الآخرة يلفنا فى عز نهار الدنيا، إنها العانس الحادة، والناظرة القاسية، والأم المتعالية المتصابية التى لا تنسى مجد العائلة الزائف. «إحسان شريف» صاحبة موهبة كبيرة لم تجد حظها، لكنها استطاعت أن تحفر لها مكانًا فى تاريخنا السينمائى، إنها «أستاذة الفنانين» كما أطلق عليها يوسف شاهين، وأشاد بها ليقول لها «مكانك فى هوليود»، لكن مكانها الحقيقى فى قلوبنا، بنفختها الكدابة وارستقراطيتها الفارغة، ومصمصة شفاهها الخالدة.