قبل بضعة أسابيع، ونحن نودع العام الذى انقضى ونستقبل هذا العام الجديد، تساءلت فى كلمة نشرت فى هذه الصفحة عما أعددناه من برامج نحيى بها الذكرى المئوية الأولى لثورة 1919 ونستعيد أيامها ونستلهمها فى أيامنا هذه التى مازلنا نواجه فيها الأسئلة الصعبة التى كنا نواجهها منذ مائة عام. وقد سرنى أن أتلقى منذ أيام أول جواب عن تساؤلاتي، وهو مجموعة من المؤلفات التى تدور حول الثورة أصدرتها الهيئة العامة لقصور الثقافة. فى هذه المجموعة ثلاثة مجلدات للمؤرخ الأستاذ عبد الرحمن الرافعى يتابع فيها سلسلة مؤلفاته عن تاريخ مصر الحديث التى بدأها بكتابه «تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم فى مصر». وهو عنوان يعبر عن منهجه فى كتابة التاريخ، فهو لا يكتفى بسرد الحوادث ولا يركز على البطولات الفردية، وإنما يعود بالحوادث والبطولات إلى أصولها الأولى ومنابعها الوطنية، لأن التاريخ بالنسبة له ليس مجرد حوادث تجرى على السطح وإنما هو حركة لها بداية ونهاية، مقدمات ونتائج. والرافعى لم يكن مجرد مسجل للحوادث وإنما كان مشاركا فيها، وهو فى الأعمال التى أصدرها عن ثورة 1919 يكتب عما رآه وفكر فيه وشارك فى صنعه وتحقق منه بالعودة للمراجع التى يتحدث فيها أصحابها عن العهود التى سبقت ما عاشه أو ما يكتب عنه. هكذا نجد فى المجلدات الثلاثة التى صدرت عن هيئة قصور الثقافة صفحة كاملة عن ثورة 1919 منذ كانت خلال الحرب العالمية الأولى فى علم الغيب إلى أن انفجرت وكشفت عن نفسها وعمت مصر كلها وأرغمت المحتلين الإنجليز على الدخول مع الثوار المصريين فى المفاوضات. وننتقل من عبد الرحمن الرافعى إلى الدكتور حسين مؤنس وكتابه «دراسات فى ثورة 1919» الذى يرى فيه مؤلفه أن هذه الثورة كانت ميلادا جديدا بحق، خرجت فيه مصر من عهود الظلام والقهر التى تخبطت فيها أكثر من ألفى عام لتكتشف نفسها من جديد وتستجمع قواها وتدخل هذا العصر الجديد. والواقع أن ثورة 1919 كانت تجليا فريدا لمصر أعاد إليها فيما يشبه المعجزة روحها وكشف عن عظمتها كما كشف عن نقاط ضعفها وساعدها فى مواجهتها وزود المصريين جميعا بوعى مشترك نهضوا فيه من رقدتهم الطويلة، وعبروا عن عبقريتهم وعبقرية بلادهم بكل الصور وفى كل المجالات. سعد زغلول، ومكرم عبيد، ومصطفى النحاس، وأحمد لطفى السيد، ومحمد حسنين هيكل، وطه حسين، وعباس محمود العقاد، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وتوفيق الحكيم، وصفية زغلول، وهدى شعراوي، ودرية شفيق، وأم كلثوم، وروزاليوسف، ومحمد عبد الوهاب، ويوسف وهبي، ومحمود مختار، ومحمود سعيد، وطلعت حرب، وسواهم، وسواهم من السياسيين، والأدباء، والفنانين، والاقتصاديين، والأطباء، والمهندسين الذين أطلعتهم ثورة 1919 وعبرت بهم مصر عن نفسها كما لم تفعل من قبل. وحسين مؤنس يجمع فى دراساته هذه بين الكتابة التاريخية والكتابة الأدبية، وينظر للحوادث والشخصيات نظرة يحيط فيها بالإيجابى والسلبي، ويتطرق لبعض الجوانب المهملة أو المنسية، فيتحدث عن الفلاحين، وعن الشباب، وعن الحرفيين، وعن المرأة بادئا من اللحظة التى تفجرت فيها الثورة فى أواخر عام 1918 منتهيا بالأحداث والتطورات التى سبقت تصريح فبراير. والمساحة لا تسمح بالحديث عن كل مؤلف من المؤلفات التسعة التى أصدرتها هيئة قصور الثقافة عن ثورة 1919 ولهذا أنتقل من استعراضها واحدا واحدا إلى تناولها جملة من خلال بعض القضايا التى أثارتها، ومنها علاقة ثورة 1919 بما سبقتها من أحداث. بعض المؤرخين يرون أن ثورة 1919 بداية حركة وطنية لم يسبقها ما يماثلها. فثورة عرابى غلب عليها الطابع العسكري، ومقاومة المصريين لبونابرت غلب عليها الطابع الديني. لكن المعارضين لهؤلاء يرون أن الصلة وثيقة بين ثورة 1919 وثورة عرابى التى قاومت التدخل الأجنبي، وطالبت بالحكم النيابي، وكان سعد زغلول من أنصارها. ومن القضايا التى أثارتها هذه المؤلفات النقد الذى وجهه بعضهم لسعد زغلول سواء فى المؤلفات التى أصدرتها الهيئة أو فى غيرها ونصيب هذا النقد من الحقيقة، وهل أريد به البحث التاريخى أم أريد به غرض آخر؟. ومن هذا النقد ما ذكره الدكتور عبد الخالق شاهين فى كتابه «سعد زغلول وثورة 1919 عن العلاقة التى زعم أنها لم تكن على ما يرام بين سعد وزوجته أم المصريين، وما ذكره عن معاملته الحسنة للإنجليز، فضلا عن أنه أى سعد زغلول «لم يطالب بالاستقلال ولا فكر فى الدستور أيام كان وكيلا للجمعية التشريعية»!. لكننا رأينا أن سعدا شارك فى ثورة عرابى وقبض عليه وسجن بعد فشلها. كان هذا وهو شاب فى الثانية والعشرين من عمره. ولاشك أن الدور الذى أداه فى ثورة 1919 أخطر بكثير، لأنه تزعم فيه كل المصريين وخرج به على كل السلطات وكان آنذاك فى نحو الستين من عمره، وهى سن تدفع للتردد والحذر ولا تشجع على المغامرة. وكان أيضا قد تدرج فى المناصب الحكومية فصار قاضيا ووزيرا ووكيلا للجمعية التشريعية وهى مناصب تغرى بالتريث وتحول بين صاحبها وبين الاندفاع فيما اندفع له سعد الذى سبق الجميع فى طلب الاستقلال والتعرض للاعتقال والسجن والنفى ومحاولة الاغتيال وسواها من المخاطر التى واجهها سعد بشجاعة دفعت البعض لاتهامه بالتطرف. لكن المصريين فهموا مواقف سعد على حقيقتها وعرفوا فضائله والتفوا حوله كما لم يلتفوا حول أى زعيم آخر. ولقد كان اللوم الذى وجهه هؤلاء لسعد يصح لو أن أحدا سبقه إلى الدور الذى أداه فى الثورة، لكن أحدا لم يسبقه ولم يلحقه. وإذن فاللوم الذى وجه إليه اجتراء اندفع له البعض دون وجه حق. إننى أحيى هيئة قصور الثقافة على ما قدمته احتفالا بالذكرى المئوية الأولى لثورة 1919 وأنتظر أن تواصل احتفالها بهذه الذكرى ليس فقط لنحيى هذا الماضى المجيد، بل لنجد فيه أيضا ما يعيننا على مواجهة الحاضر وهو كثير. لمزيد من مقالات ◀ بقلم: أحمد عبدالمعطى حجازى