عشر سنوات فصلت بين خطاب الرئيس الأمريكى باراك أوباما فى جامعة القاهرة فى يوليو 2009 وبين خطاب وزير الخارجية الأمريكى مايكل بومبيو الذى يعد من أقرب رجال الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى الجامعة الأمريكية فى يناير 2019. بدية فإن لاختيار مكان الخطاب رمزيته فقد اختار أوباما مخاطبة العالم العربى الإسلامى من جامعة القاهرة فيما أختار بومبيو الجامعة الأمريكية فى التجمع الخامس منصة لإطلاق رؤى إدارة ترامب. « انه لمن دواعى شرفى أن أزور مدينة القاهرة الأزلية حيث تستضيفنى فيها مؤسستان مرموقتان للغاية إحداهما الأزهر الذى بقى لاكثر من ألف سنة منارة العلوم الإسلامية بينما كانت جامعة القاهرة على مدى أكثر من قرن بمثابة منهل من مناهل التقدم فى مصر. ومعا تمثلان حسن الاتساق والانسجام ما بين التقاليد والتقدم. وإننى ممتن لكم لحسن ضيافتكم ولحفاوة شعب مصر. ................................................... كما أننى فخور بنقل أطيب مشاعر الشعب الأمريكى لكم مقرونة بتحية السلام من المجتمعات المحلية المسلمة فى بلدى.. «السلام عليكم». بهذه الكلمات صدر أوباما خطابه: فيما قال بومبيو: وليس ثمّة مكان أفضل من المكان الذى أقف فيه اليوم لإجراء هذه المناقشة فى الجامعة الأمريكية...إنها رمز مهمّ لصداقة أمريكا مع مصر وما يجمع شعبينا معا. لقد أنشأنا معًا مكانًا حديثًا للتعلم فى وسط حضارة قديمة لها تاريخها الغنى بالفنانين والشعراء والمفكرين». ونلاحظ هنا أنه قصر إسهام ماأسماه «حضارة قديمة» على الشعر والفكر وكأن الحضارة الإسلامية لم تكن هى الأساس لنهضة أوروبا بعد عصور الظلام عندما ترجمت علوم المسلمين التى كانت مدونة باللغة العربية. إزالة التمييز بين الإرهاب والدين دأب القادة الغربيون على إدانة الإرهابيين وحرصوا على التمييز بين الدين الإسلامى ومن يقومون بأعمال إرهابية باسمه على أساس أن الإرهاب لا دين له ولا وطن، ولكن الأمر اختلف مع تولى ترامب رئاسة الولاياتالمتحدةالأمريكية حيث كشفت تصريحاته واختياراته لرجاله ومنهم بومبيو وزير الخارجية عداء صريحا للإسلام والمسلمين. لم يراع التفرقة بين الإرهابيين والمتطرفين وبين الإسلام. حدد وزير الخارجية الأمريكى فى بداية خطابه منطلقه الفكرى بقوله: ولكن هذه الرحلة بالذات لها مغزى خاص بالنسبة لى كمسيحى من الكنيسة الإنجيلية، فهى تأتى بعد وقت قصير من احتفالات عيد الميلاد فى الكنيسة القبطية. هذا هو الوقت المهم. نحن جميعاً أبناء إبراهيم: مسيحيون، مسلمون، ويهودا. فى مكتبى، أحتفظ بالكتاب المقدس على مكتبى مفتوحا ليذكرنى بالله وكلمته، وبالحقيقة» لاتصالح وقال فى خطابه بعد الإشارة إلى أن أمريكا هى قوة الخير فى العالم: «إن أمريكا هى قوة للخير فى الشرق الأوسط» واعتبر خطاب أوباما التصالحى مع العالم الإسلامى خطأ فقال: «لأن قادتنا أخطأوا فى تفسير تاريخنا وفى قراءة لحظتكم التاريخية تلك. وقد أثّر سوء التفاهم الأساسى هذا، الذى بدأ فى هذه المدينة عام 2009، تأثيراً سلبياً على حياة مئات الملايين من الناس فى مصر وفى جميع أنحاء المنطقة. تذكروا: لقد وقف أمامكم فى هذه المدينة بالذات قبلى أمريكى آخر، وأخبركم أن الإرهاب الإسلامى المتطرف لا ينبع من أيديولوجية. وأخبركم أن سبتمبر قد قاد بلدى للتخلى عن مثلها العليا، ولا سيما فى الشرق الأوسط. وقال لكم إن الولاياتالمتحدة والعالم الإسلامى احتاجوا إلى وأقتبس هنا بداية جديدة، انتهى الاقتباس. ولكن نتائج هذه التقديرات الخاطئة كانت سيئة للغاية. حين رأينا فى أنفسنا زوراً سببا لما يعانيه الشرق الأوسط، بتنا مترددين فى تأكيد أنفسنا عندما حان الوقت وطلب منا شركاؤنا ذلك. لقد قللنا إلى حدّ كبير من خطورة الإسلام المتطرف ووحشيته، وهو انحراف فاسد من الإيمان يسعى إلى اقتلاع كل شكل آخر من أشكال العبادة أو الحكم» ولكن ما الذى قاله أوباما قبل 10 سنوات ولم ينسه بومبيو باعتباره ممثلا لتيار يميني؟ قال أوباما: «ان المسألة الاولى التى يجب أن نجابهها هى التطرف العنيف بكافة أشكاله». «وقد صرحت بكل وضوح أن أمريكا ليست ولن تكون أبدا فى حالة حرب مع الاسلام. وعلى أية حال سوف نتصدى لمتطرفى العنف الذين يشكلون تهديدا جسيما لامننا. والسبب هو أننا نرفض ما يرفضه أهل كافة المعتقدات.. قتل الابرياء من الرجال والنساء والاطفال» لقد قتلوا أبناء مختلف العقائد ومعظم ضحاياهم من المسلمين. ان أعمالهم غير متطابقة على الاطلاق مع كل من حقوق البشر وتقدم الامم والاسلام. وينص القرآن الكريم على أنه «من قتل نفسا بغير نفس أو فساد فى الارض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا» ولا شك أن العقيدة التى يتحلى بها أكثر من مليار مسلم تفوق عظمتها بشكل كبير الكراهية الضيقة التى يكنها البعض. إن الإسلام ليس جزءا من المشكلة المتلخصة فى مكافحة التطرف العنيف وانما يجب أن يكون الإسلام جزءا من حل هذه المشكلة. ان التسامح تقليد عريق يفخر به الإسلام» وختم خطابه بالقول: «إننا نملك القدرة على تشكيل العالم الذى نسعى من أجله ولكن يتطلب ذلك منا أن نتحلى بالشجاعة اللازمة لاستحداث هذه البداية الجديدة آخذين بعين الاعتبار ما كتب فى القرآن الكريم.. «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا». أرض الميعاد القديمة وفيما يتعلق بقضية فلسطين التى كانت قضية العرب الأولى فإن بومبيو أعلن عن إنجاز الإدارة الحالية وعدها المتمثل فى نقل السفارة الأمريكية للقدس ولم يقدم ولو بضع كلمات للفلسطينيين فى مقابل قول أوباما: « نتحمل معا مسئولية ضم صفوفنا والعمل معا نيابة عن العالم الذى نسعى من أجله وهو عالم لا يهدد فيه المتطرفون شعوبنا.. عالم تعود فيه القوات الأمريكية الى ديارها عالم ينعم فيه الفلسطينيون والإسرائيليون بالأمان فى دولة لكل منهم». وقد تحمل الفلسطينيون آلام النزوح على مدى أكثر من 60 سنة حيث ينتظر العديد منهم فى الضفة الغربية وغزة والبلدان المجاورة لكى يعيشوا حياة يسودها السلام والامن هذه الحياة التى لم يستطيعوا عيشها حتى الان. يتحمل الفلسطينيون الاهانات اليومية صغيرة كانت أم كبيرة والتى هى ناتجة عن الاحتلال. وليس هناك أى شك من أن وضع الفلسطينيين لا يطاق ولن تدير أمريكا ظهرها عن التطلعات المشروعة للفلسطينيين ألا وهى تطلعات الكرامة ووجود الفرص ودولة خاصة بهم وحرص بومبيو فى خطابه على التأكيد على أن أمريكا قوة محرِّرة، وليست قوة احتلال وأنها تسعى لنشر الخير وهو فى ذلك ينطلق من رؤية اليمين الأمريكى للرسالة الخالدة التى تحملها أمريكا فقد تأرجحت السياسة الأمريكية على مدى تاريخها بين ثنائيات المثالية والنفعية, والعزلة والمشاركة ولكن الملمح الابرز لتلك السياسة هو الادعاء بامتلاك الحقيقة المطلقة وأن من هم على الجانب الآخر اما أشرار يجب التخلص منهم أو ضالين بحاجة إلى الهداية. أورشليم الجديدة يرد فى كتاب أرض الميعاد والدولة الصليبية, أمريكا فى مواجهة العالم منذ1776 من تأليف والتر مكدوجال استاذ العلاقات الدولية فى جامعة بنسلفانيا, أنه عندما وصل المهاجرون الأوائل من انجلترا إلى العالم الجديد (أمريكا) اعتبروها «أورشليم الجديدة» أو كنعان الجديدة وشبهوا أنفسهم بالعبرانيين القدماء حين فروا من ظلم فرعون (الذى يعادله فى حالتهم الملك جيمس الأول) وهربوا من أرض مصر(يعادلها انجلترا بحثا عن أرض الميعاد). وكانت نشأة أمريكا نتيجة اندفاعة دينية مثلما كانت مغامرة كريستوفر كولومبوس لاكتشاف العالم الجديد والذى قال أن الرب جعله رسولا للجنة الجديدة والأرض الجديدة بعد أن حدثه بها القديس يوحنا فى سفر الرؤيا. ولجأ المؤلف إلى الاستعارة الدينية فى كتابه الذى سعى فيه إلى التأريخ للدبلوماسية الأمريكية فتعبير أرض الميعاد مستعار من العهد القديم (التوراة) ويشير بتعبير الدولة الصليبية إلى العهد الجديد(الانجيل) وإلى الصليب كرمز للتبشير والتضحية من أجل خلاص البشرية وهى الرسالة التى تقول الولاياتالمتحدة أنها وهبت نفسها لها. ويؤكد الكتاب دور العامل الدينى فى السياسة الخارجية الأمريكية ويركز على التمايز بين العهد القديم لها والتى استهدفت الحرية فى الداخل والعهد الجديد الذى حاولت فيه أمريكا توسيع دورها فى العالم وقيادته. فى العهد القديم اعتبر مؤسسو أمريكا أنها إسرائيل الجديدة التى هاجروا إليها من أجل الحرية وأرسوا قواعد السلوك الأمريكى الخارجى من أجل أن ينعموا بالحرية فى الداخل. بعد استكمال الاستيطان حتى الساحل الغربى فى1898 تحرك الأمريكيون من أجل تشكيل العالم وفق تصورهم من خلال قواعد جديدة للسياسة الخارجية الأمريكية من ضمنها تبرير التوسع واستخدام القوة فى شكل أقرب إلى الحملة الصليبية لتحضير العالم ولخص المؤلف أرثر شليزنجر التاريخ الأمريكى بأنه دورات من الحرب بين الواقعية والمسيحية وبين التجريب والقدرية. ولخص مكدوجال التقاليد التى حكمت السياسة الخارجية الأمريكية فى العهد الجديد بأنها الامبريالية التقدمية بما يعنى أن الأمريكيين مختارون لتحضير البشرية ونقل التقدم إلى الشعوب الأخرى والليبرالية العالمية ليكون العالم أكثر سلما وديمقراطية والاحتواء وتحسين العالم. ويأتى ذلك فى مقابل التقاليد التى حكمت مرحلة العهد القديم والتى تمثلت فى الحرية فى الداخل والعزلة ومبدأ مونرو الذى يعنى عدم تدخل أوروبا فى شئون القارتين الأمريكيتين, والتوسعية (الاستكشاف والغزو وصولا إلى المحيط الهادى). وهناك اتصال وتداخل بين العهدين القديم والجديد فى السياسة الخارجية الأمريكية يجعل منها فى حالات كثيرة ازدواجية وقائمة على الثنائيات والتناقض بين المثالية والواقعية وفيما تحدث الرئيس جورج بوش الأب عن نظام عالمى جديد فإن بوش الابن يتحدث عن حرب متصلة ضد الإرهاب بدأها بأفغانستان فى 2001 ولم ينتظر اكتمال المهمة حتى اتجه للعراق فى 2003 وتعد إدارة ترامب تجسيدا لتلك الرؤية التى بلورها بومبيو الذى تحدث كأمريكى قبيح فيما تحدث أوباما باعتباره الرجل الطيب،والحقيقة أن كليهما يعبر عن مؤسسات لا تتغير سياستها تجاه الآخرين إلا من حيث الأسلوب.