طفرت إلي سطح الجدل الراهن قضايا عديدة لم تكن مطروحة قبل25 يناير, ولم يكن متصورا لها أن تطرح مجددا لأن في ذلك ردة ثقافية كبري تكاد تدفع بنا إلي أجواء القرن التاسع عشر. وكأننا قد خرجنا منه إلي القرن الحادي والعشرين مباشرة, فيما سقط منا, سهوا أو عمدا, القرن العشرون برمته, وضاعت منا أو غامت في عيوننا كل منجزاته الفكرية التي صاغت الحداثة المصرية. ففي نهاية ذلك القرن كان العقل الإسلامي أخذ دفقة كبيرة من استنارة الإمام محمد عبده, ذلك الأزهري الذي أعاد تأكيد المبدأ الفلسفي الرشدي عن العلاقة بين العقل والنص, مؤكدا أن لا تعارض بينهما طالما كان العقل نزيها, والنص محكما. بل مقدما للعقل علي النص حال اختلافهما, إذ لا يعدو هذا الاختلاف أن يكون ظاهريا يتطلب إعادة تأويل النص طبقا لمقتضيات البلاغة العربية كي يتوافق مع العقل, لا إهدارا لقدسية النص أو تحديا لمشيئة الله, بل لأن الله, وهو واهب العقل أيضا, لا يمكن أن ينزل نصا يخالف هبته, وأن ما يبدو اختلافا لا يعدو أن يكون استغلاقا علي العقل لا طريق إلي الفكاك من أسره سوي المزيد من إعمال العقل, وما يمثله من تجديد وابتكار, لا قهره لصالح النص وما يفترضه من تقليد واجترار. علي تلك الأرضية العقلانية يمكن القول إن مصر قد شهدت ما يشبه حقبة تنويرية امتدت في الربع الأول من القرن العشرين, وأسست لما يمكن تسميته بموجة الحداثة الأولي. ضمن هذه الموجة, وفي العام الأخير من القرن التاسع عشر كان قاسم أمين قد أصدر كتابه التأسيسي الأول تحرير المرأة, ويشرع في إصدار الثاني المرأة الجديدة الذي صدر بعد سنوات خمس من عمر القرن العشرين, مؤكدا حرية المرأة وحقوقها في التعليم والعمل وسفور الوجه, ملتمسا صورة عصرية للمرأة المصرية سرعان ما جسدها أو قاربها القرن العشرون, إذ تمكنت المرأة من فرض حقها في السفور بعد ثورة1919, وأخذت تمارس حقها في التعليم مع انشاء أول مدرسة للبنات عام.1925 وضمنها أيضا أطلق الشيخ علي عبد الرازق صيحته المدوية في كتاب( الإسلام وأصول الحكم) عام1925 م نافيا عن الإسلام شبهة الدولة الدينية, مؤكدا أن الخلافة مجرد شكل تاريخي من أشكال الحكم وممارسة السلطة, وأنها لم تكن أبدا أحد أصول الإسلام, واضعا لبذور الحداثة السياسية. وفي سياقها نفسه كتب د. طه حسين عام1926 م مؤلفه الشهير( في الشعر الجاهلي), ساعيا إلي تبين حدود الانتحال في هذا الشعر, مجذرا في تربتنا الثقافية بذور المنهج الشكي, والحداثة الثقافية. هذه الموجة التأسيسية أعقبتها موجة ثانية, أكثر نضجا, امتدت بين أربعينيات وسبعينيات القرن العشرين, وتبدت في حساسية ثقافية يمكن وصفها بالنقدية, انعكست في أصعدة شتي: فنية وأدبية وفكرية.. ألخ. ففي الفن الموسيقي كان ثمة مبدعون كثر دشنوا, خصوصا الفنانين الكبيرين رياض السنباطي ومحمد عبد الوهاب, حداثتنا الموسيقية التي استوعبت الأدوات والوسائل الموسيقية الغربية كالأورج والبيانو مع الأدوات الموروثة في تكامل فني مثير أكد واستلهم الشخصية المصرية والروح الشرقية من جانب, وتجاوب مع ايقاع العصر من جانب آخر. وفي الفن التشكيلي كان إسهام المثال الكبير محمود مختار علي صعيد النحت, ومحمود سعيد علي صعيد التصوير, ورمسيس يونان ومن حوله الكوكبة المتمردة من جماعة الفن والحرية علي صعيد الرسم. وفي الأدب لعب الدور نفسه كتابات نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ومحمد حسين هيكل وعلي أحمد باكثير ويحيي حقي ومحمد عبد الحليم عبدالله, وعبد الرحمن الشرقاوي ويوسف إدريس, فضلا عن الفتوحات الكبيرة لصلاح عبد الصبور, وأمل دنقل, وأحمد عبد المعطي حجازي الذي بلغ تألقه آنذاك في تحقيق حداثتنا الشعرية. وعلي الصعيد الفكري كانت هناك دراسات الشخصية الحضارية التي أنتجت وعينا الحديث بالوطنية المصرية علي منوال انتاج حسين فوزي وحسين مؤنس وأشرف غربال, ونعمات أحمد فؤاد, تلك التي أتمها جمال حمدان ووضعها في سياق نظري ومنهجي رفيع. كما كانت هناك الكتابات المتأخرة لطه حسين, والعقاد, ومحمود شاكر علي صعيد الوعي بالتراث الإسلامي تاريخا وشخوصا وعيا نقديا ومنهجيا لا يعادي الإيمان. وبالذات وفي القلب من كل ذلك عملية إعادة الصياغة علي صعيد الفكر الفلسفي المستوعب للتراث والمتجاوز لطبيعة بنائه السلفي علي صعيد المضمون والقضايا الفكرية بل طريقة العرض والتأليف, والنازع الي استيعاب الفكر الغربي المعاصر تلك التي ارتاد أفقها الأستاذ أحمد أمين ومن حوله المدرسة الفلسفية النشيطة في الترجمة والتصنيف ثم التأليف داخل وحول قسم الفلسفة بآداب القاهرة والتي ضمت توفيق الطويل, ويحيي هويدي, وعثمان أمين, وزكريا ابراهيم, وفؤاد زكريا وعبد الرحمن بدوي, والتي كان قد صاغ منطقها العام وجسد ذروة تألقها بدأب وحذق الفيلسوف العربي الكبير د. زكي نجيب محمود في مشروعه التوفيقي البارز الذي مثل ذروة الوعي النظري والفلسفي بقضية النهضة ومعضلة الحداثة. اليوم, في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين, وبعد ثورة شعبية نادت بالحرية والكرامة الإنسانية معا, نجد أنفسنا أمام قضايا ظننا أننا تجاوزناها, وفي قلب جدل افترضنا أنه قد حسم قبل نحو القرن. لقد بدأ الحديث من جديد حول ضرورة تطبيق أحكام الشريعة بدلا من مبادئها, في مماحكة تعكس ضيق أفق تاريخي, ما يعد نكوصا تشريعيا يرجع بنا إلي ما قبل دستور1923 م. وأيضا حول وضع الأزهر الشريف كمرجعية عليا للتشريع ما يمثل خطوة أولي علي طريق دولة دينية أو بابوية لم تكن يوما في تاريخنا, ناهيك عن سوء سمعتها في التاريخ الذي شهدها. وكذلك حول دور الفتوي في التعامل مع الشأن الاقتصادي علي منوال قرض صندوق النقد الدولي, وهل هو حرام( ربا) أم حلال( مصاريف إدارية), وكأننا نعرف الاقتراض منه لأول مرة. وأخيرا حول دور الفن في الحياة, ومدي احترام حرية التعبير, وبالذات في مواجهة شخص رئيس الجمهورية التي أراد البعض أن يحصنه من النقد بحجة عدم العيب في الذات الرئاسية علي منوال قانون العيب في الذات الملكية الذي كان قائما قبل ثورة يوليو.1952 نعم كان التنوير المصري يشهد ذبولا, والحداثة المصرية تعاني أفولا طيلة ربع القرن الأخير.. نعم كان الرئيس السابق يكاد يتمتع بذات رئاسية محصنة لم يتم اختراقها إلا في السنوات الخمس الأخيرة من حكمه المديد, ولكن إذا كان تاريخنا يحمل في طياته معطيات الاستنارة ونقائضها, والحداثة وأضدادها, والحرية وأعدائها, فلماذا ندير ظهرنا الآن للاستنارة والحداثة والحرية, ونوليها نحو النقائض والأضداد والأعداء؟ ولماذا تبدو ثورتنا وكأنها تغالط حركة التاريخ, لدرجة أن تلصق القرن الحادي والعشرين بالتاسع عشر؟ ومن الذي يود أن يسلبنا خبرة القرن العشرين, ولماذا؟ المزيد من مقالات صلاح سالم