عنوان هذا المقال يشى بأن ثمة لاهوتا آخر سابقا على هذا اللاهوت نشأ فى سياق العلمانية عندما توقع القس البروتستانتى الألمانى ديتريش بونهوفر أفول الدين التقليدى فأثار السؤال التحدى فى عام 1944: كيف نتحدث عن الله فى مواجهة انسان علماني؟ ابتداء من عام 1963 صدرت مؤلفات للاهوتيين كبار تتحدث عن لاهوت جديد. وكان من بين هؤلاء اللاهوتى الأمريكى هارفى كوكس الذى أصدر كتاباً عنوانه المدينة العلمانية (1965). إلا أنه لاحظ بعد ذلك نشأة لاهوت جديد آخر اسمه لاهوت التحرير فى أمريكا اللاتينية فأصدر فى عام 1984 كتابا آخر عنوانه الرئيسى الدين فى المدينة العلمانية وعنوانه الفرعى نحو لاهوت ما بعد الحداثة. ويقال عن اللاهوتى جوستافو جوتيريز إنه الأب الروحى للاهوت التحرير ومشهور بكتابه المعنون لاهوت التحرير (1971). ومع ذلك فإنه لا يرغب فى أن يقال إنه كذلك لأن المهم عنده التحرير وليس لاهوت التحرير إذ فى رأيه أن اللاهوت يلزم أن يكون فى خدمة التحرير، أو بالأدق يلزم أن يكون فى خدمة الجماهير الساكنة فى قاع المجتمع. ومن هنا يمكن القول إن هذا اللاهوت هو لاهوت فعل لأن الفكر متضمن فى الفعل. إلا أن هذا القول لا يعنى أن هذا اللاهوت هو لاهوت عملى بمعنى أنه تطبيق لفكرة عقلية تنشأ فى مؤسسات ثم تزرع فى عقل الجماهير، إنما هو لاهوت ملتزم بتراث الجماهير الذى هو عنصر أساسى فى تأسيس لاهوت التحرير. ويترتب على ذلك ضرورة استشارة الجماهير والدخول معهم فى حوار حول الاهتمام بنظريتين: نظرية عن الكون ونظرية عن الله، ومحاولة ايجاد توليفة بينهما. ومن هذه التوليفة تتكون صورة عن العالم من حيث هو مسرح لما هو إنسانى وإلهي، ومن حيث هو تعبير عن الاحساس بالخطيئة فى المؤسسات الظالمة وليس فى الضعف الانسانى على نحو ما هو شائع، ومن حيث إن الفاعلين ليسوا أفرادا بل تجمعات وتكتلات. والغاية من كل ذلك الخلاص الروحى والأرضى فى مملكة الله التى ستتحقق فى الأرض كما فى السماء. وفى هذا السياق يرى جوتيريز أن الله يعمل فى التاريخ من أجل تحرير الرجل والمرأة، والدعوة إلى نمط جديد لحياة الكنيسة، وادخال آلام الفقراء فى تاريخ أمريكا اللاتينية بوجه خاص وفى التاريخ الانسانى بوجه عام لأنه تعبير عن حضور الله. ومن هنا تتغير رؤية الفقراء لأنفسهم، من رؤية أن فقرهم حتمى وليس إلى رؤية أن فقرهم ليس كذلك إذ له أسباب وعليهم أن يكونوا على وعى بهذه الأسباب حتى يمكنهم التحرر منها. ويترتب على هذا التغيير قول الفقراء نحن هنا ولسنا غائبين، وعلى الكنيسة أن تتغير لكى نكون من نشطائها. وبناء عليه فإن لاهوت التحرير يثير هذا السؤال: كيف كانت رؤية المسيح للفقراء حيث إنه كان مطاردا من أعدائه؟ جواب لاهوت التحرير أنه فى إمكان الفقراء عند الضرورة الالتجاء إلى العنف إذا لزم الأمر. وعلى الكنيسة الآن أن تعترف بمشروعية العنف للفقراء لأنها بهذا الاعتراف تثبت وجودها ولكن بشرط أن تعترف أيضا بأن الفقر ليس ظاهرة طبيعية بل ظاهرة من صنع البشر. أما إذا اعترفت بأنه ظاهرة طبيعية فتكون الكنيسة فى هذه الحالة كنيسة ملحدة. ومن هنا يمكن القول إن لاهوت التحرير أحدث تغييرا فى مفهوم الالحاد، إذ لم يعد إنكارا لوجود الله بل إنكار لازالة الفقر. وبناء عليه فإن لاهوت التحرير لا يقسم البشر إلى مؤمنين وغير مؤمنين إنما يقسمهم إلى مقهورين وغير مقهورين. ويبقى بعد ذلك سؤال: ما هو موقف اللاهوتى الأمريكى هارفى كوكس من لاهوت التحرير؟ إنه فى رأيه لاهوت ما بعد الحداثة فى مواجهة لاهوت الحداثة. ولكن إذا كان لاهوت الحداثة مصدره العلمانية وما يلازمها من التنوير فهل معنى ذلك أن لاهوت ما بعد الحداثة يقف ضد العلمانية والتنوير معاً؟ جواب كوكس بالايجاب ودليله على ذلك أن لاهوت التحرير يرفض مفهوم التأويل الكامن فى جوهر لاهوت الحداثة والذى يعنى إعمال العقل فى النص الديني، ومن ثم يقال عن هذا العقل إنه العقل الحديث. ودليله على ذلك أيضا أن لاهوت التحرير لا يشتهى سوى التغيير منفصلاً عن التأويل. وفى عام 1982 دعيت للمشاركة فى مؤتمر بجامعة سانتو توماس أى جامعة القديس توما بكولومبيا، وهى جامعة محكومة بلاهوت التحرير، وكان عنوان المؤتمر «المؤتمر الثانى لفلسفة أمريكا اللاتينية». وكنت فى حينها مؤسساً ورئيساً للجمعية الفلسفية الأفروآسيوية التى كانت الغاية من تأسيسها إشاعة مُثل التنوير فى القارتين. ومن هنا طُلب منى إلقاء لمحة تاريخية عن نشأة هذه الجمعية حتى يمكن معرفة مدى إمكان توسيع جغرافيتها بانضمام أمريكا اللاتينية. وألقيت كلمتى فى 16/7/1982 وبعد ذلك دار حوار خصب، ولكنه لم يكن مثمراً لأن فلسفة أمريكا اللاتينية لا يعنيها التنوير إنما يعنيها التحرر من مركزية القوى المهيمنة. لمزيد من مقالات د. مراد وهبة