ينتهى العرض الكبير، وهو العرض الأخير، وينصرف الجميع نحو بيوتهم. كل يحمل مصيره. لا أحد يتذكر الراحلين نحو المجاهيل!.. فى قرية بيت مرى القريبة من بيروت تستوقفك إحدى المقابر. تشعر من صمتها الطويل براحة الأرواح التى ترقد تحت ظلال الأشجار المحاطة بالعشب والأزهار البرية. هنا ترقد فى سلام الشاعرة ناديا تويني.. وإن غابت شمسها، بقيت كلماتها ظلالا فى بهاء المطلق وهى تقول: «الحياة ليست سوى الحياة، مجرّد استراحة للنظر». سنوات عمرها التى قضتها فى الطرقات المحكومة بالنهايات الغامضة مضت سريعا وعلى غير إرادتها. لأكثر من عشرين عاما صارعت المرض اللعين، ثم استسلمت فى النهاية. فى يوم 20 يونيو 1983، لم تعد روحها تستجدى البقاء وإنما تشتهى التحليق عاليا. «اتركونى بهدوء أبكى ظلى النحيل الذى تستردّه الرياح من الأمس». كان عمرها سبعة وأربعين عاما عندما توفيت. ولدت نادية محمد على حمادة فى بيروت عام 1935 فى بيت ثنائى اللغة: والدها كان كاتبا ودبلوماسيا لبنانيا درزيا، بينما كانت والدتها جزائرية فرنسية. بحكم عمل والدها، أكملت دراستها الثانوية فى اليونان. وهناك تعرفت إلى غسان توينى - صاحب جريدة «النهار» وعميد الصحافة اللبنانية- وكان آنذاك صحافيا، فتغيرت مخططاتها وبدل ارتياد الجامعة والتخصص فى الحقوق تزوجت منه عام 1954. تنسج نصها الشعرى فى نولها الخاص بالعربية والفرنسية والإنجليزية. لغتها مستمدة من تجربتها الحياتية. كانت بلادها زهرة كالزهور، أضحت بغير بهجة أو حبور! وقت حجبت القذائف وجه وطنها الجميل وغاب وراء الدخان الأسود. كانت الشاعرة اللبنانية تسرد فى قصائدها أيام عزه وسنوات محنته. عاتبت نادية وطنها لبنان فى قصائد الحب والحرب، قائلة: أنا أنتمى إلى بلد ينتحر كل يوم بينما يتم اغتياله. فى الواقع، أنا أنتمى إلى بلد مات عدة مرات. لماذا لا يجب عليّ أنا الأخرى أن أموت من هذا الموت اللبنانى القبيح والبطيء والوحشي؟ عذوبتها صباح آخر.. تستيقظ الأحلام فى أقلامها.. إذا همّت روحها تطرق أبواب الجمال.. صادقة هى كلمتها: «بلادى التى يعذبها الاختيار، كأنه انتظار. ويوما نُضيعها على الطريق. بلادى تنكسر كقطعة من الموج، وصيفها شتاء مؤكد، بلادى التى تُسافر بين الحلم والصباح». كان الموت لها بالمرصاد، يستدرجها دون أن يفنيها.. يسقط من زهرتها ورقة تلو الأخرى. أنجبت نادية ثلاثة أطفال، لكن جميعهم توفوا.. «فى هذا الزمن لا شيء كان بسيطا: لا الموت ولا الحياة، كان الكلام يسكب فى عروقنا أجراس الهذيان».اغتيل ابنها جبران توينى الصحفى والسياسى فى عام 2005. توفى ابنها الآخر مكرم توينى فى الحادية والعشرين من عمره إثر حادث سيارة فى باريس عام 1987. وتوفيت طفلتها الثالثة نايلة فى السابعة من عمرها بسبب إصابتها بالسرطان. وفجرت فاجعة وفاة طفلتها الصغيرة لديها مخزون الكتابة، فأصدرت ديوانها الأول: «النصوص الشقراء» عام 1963 مزيّنا برسومٍ لها. من ثم توالت دواوينها التى سجلت فيها تفاعلاتها مع المرض، والحب، والأمومة، والأرض، والوطن، والبيئة، والطبيعة، والآخر... من بينها: «عصر الزبد»، «حالم الأرض»، «توقفت الأرض»، «لبنان: عشرون قصيدة من أجل حب»، «قصائد من أجل التاريخ». حزينة حكايتها.. وكأن القدر يهمس لها: كل ما فى الأرض فراق، وكل ما فى السماء لقاء. رحلت فراشة لبنان.. وكل ما تبقى منها قصائد تنعى صاحبتها. تتساءل الأقلام والأوراق البيضاء عنها.. هل تبعث من جديد؟! فتجيب كلماتها: «الإنسان غنيٌّ بالقِيَم، ولكنه شِعريّا يقيم على هذه الأرض».