كلما مشيت في شوارع باريس وشاهدت روعة معمارها وجمال التماثيل التي تزينها تذكرت الكنوز التي تزخر بها مدينة القاهرة، سواء في معمارها أو في التماثيل التي تزين ميادينها مما جعلهم يطلقون عليها اسم باريس الشرق، لكن الفرق شاسع بين الإهمال الذي تعاني منه القاهرة والاهتمام الذي تحظي به باريس والذي يعود إلي عهد الرئيس الأسبق فرانسوا ميتران الذي كان صاحب خطة المشروعات الثقافية الكبري التي بلغت تكلفتها في الثمانينات نحو 18 مليار فرانك فرنسي. لم تكن مشروعات ميتران تقوم فقط علي تجميل معالم باريس الأثرية وإنما أيضا علي إضافة معالم جديدة، وهكذا تم بناء هرم متحف اللوفر الزجاجي، وافتتح متحف أورسيه الذي كان في السابق محطة قطار، وأقيم معهد العالم العربي، وبنيت أوبرا الباستيل في الميدان نفسه الذي كان به السجن الشهير، وافتتح قوس النصر الجديد بضاحية لاديفانس، وأنشئت المكتبة الوطنية الجديدة، وكان الشق الثاني من تلك الخطة هو ترميم وتجميل الآثار القديمة بباريس، ومن بينها المسلة المصرية الواقفة في أكبر ميادين باريس وهو ميدان الكونكورد، حيث تم طلاء الهرم الصغير الذي علي قمتها بالذهب الخالص، تماما كما كان الحال في عصر الفراعنة. وحين سئل ميتران عن التكلفة الباهظة لهذه المشروعات التجميلية، أوضح أن تلك الأموال تستثمر في تدعيم القوي الناعمة لفرنسا وأنها بذلك لا تختلف عما يتم إنفاقه علي الجيش الفرنسي نفسه. استحضرت تجربة ميتران هذه لأننا الآن في وضع مشابه، حيث تجري الاستعدادات لنقل جميع المكاتب الحكومية الي العاصمة الإدارية الجديدة، وتلك فرصة نادرة لتخليص القاهرة من الزحام الذي كان يثقل عليها، ومن القبح الذي غطي أجمل معالمها المعمارية والفنية نتيجة لسنوات من الإهمال، ولا يكفي هذا المقال لرصد كل مواطن الجمال التي ينبغي الاهتمام بها في مدينتنا الحبيبة ابتداء من المباني التراثية التي تعود للحقبة الإسلامية أو القبطية، إلي معمار القاهرة الخديوية في القرن ال19، ويكفي أن أشير هنا إلي معلم واحد يجهله الكثيرون، وأقصد الأعمال البرونزية الكبري التي انجزها مثال فرنسا الشهير Henri Jacquemart هنري چاكمار (1824-1896)، ومنها أهم تمثال لمحمد علي، وتمثالي سليمان باشا ولاظوغلي بالإضافة لأسود كوبري قصر النيل الأربعة، ولو انتقل أي من هذه الأعمال إلي فرنسا لصنعوا له متحفا. أما سليمان باشا فهو الكولونيل جوزيف سيڤ الذي عهد إليه محمد علي ببناء الجيش المصري الحديث، وقد استوطن مصر التي أحبها واعتنق الإسلام وصار يعرف باسم سليمان باشا الفرنساوي، وقد نقل تمثاله إلي المتحف الحربي بعد أن تم تغيير اسم الميدان ليحمل اسم الاقتصادي الكبير طلعت حرب. ت علي أن ارتباط سليمان باشا بتاريخ مصر الحديث يتخطي كونه مؤسس الجيش، فقد تزوجت ابنته من محمد شريف باشا، أبو الدستور المصري ورئيس الوزراء، وأثمر هذا الزواج ابنة أسماها والدها توفيقة علي اسم الخديوي توفيق الذي كان قد تولي الحكم خلفا لوالده الخديوي إسماعيل، وتزوجت توفيقة من عبد الرحيم باشا صبري وزير الزراعة فيما بعد وأنجبت منه الملكة نازلي أم آخر ملوك مصر الملك فاروق. أما تمثال لاظوغلي الموجود حاليا بالميدان الذي يحمل اسمه فله قصة طريفة، فمحمود بك لاظ أوغلو الذي تحور اسمه التركي ليصبح لاظوغلي، كان أحد كبار قادة الجيش، وكان كتخدا مصر أي رئيس الدواوين الإدارية في البلاد، وهو ما يوازي الآن رئيس الوزراء، وحين عهد الخديوي إسماعيل للمثال الفرنسي عمل تماثيل له كان قد توفي ولم يكن له صورة زيتية فلم يعرف جاكمار كيف يصنع له التمثال، إلي أن عثر بالصدفة بعض من كانوا يعرفون لاظوغلي معرفة شخصية، علي سقا عجوز في حي خان الخليلي يشبه لاظوغلي تماما، فألبسوه لباس المرحوم وأتوا به الي جاكمار فصنع التمثال اعتمادا علي شكل هذا السقا الذي لم يكن يحلم بأن يصنع له أكبر مثالي فرنسا تمثالا يخلده، وإن كان قد وضع عليه في النهاية اسم غير اسمه. والحقيقة ان تلك ليست المفارقة الوحيدة بالنسبة لهذا التمثال، فإلي جانب كونه تمثالا لسقا وليس لكتخدا مصر، فهو لقائد عسكري لكن قدر له أن يرتبط تبالداخلية وليس بالجيش، ففي هذا الميدان يقع المقر الرئيسي لوزارة الداخلية، وأصبح تاسم لاظوغلي يغني عن الداخلية فصار الناس يقولون سأذهب إلي لاظوغلي بدلا من القول سأذهب إلي الداخلية. ورغم أن الرجل لم يكن اسمه لاظوغلي، ولا التمثال تمثاله، ولا كانت له علاقة بالداخلية، فإن تمثاله هو الوحيد بين التماثيل الثلاث الذي بقي في مكانه واسم ميدانه هو الوحيد الذي لم يتغير. أما تماثيل أسود قصر النيل فقد لا يعرف البعض انها صنعت أصلا لكي توضع علي بوابتي حديقة حيوان الجيزة، لكن حين وصلت التماثيل الأربعة من فرنسا، كان الخديوي اسماعيل قد خلع وتولي ابنه الخديوي توفيق، وكان يتم تجميل كوبري الخديوي اسماعيل الذي هو قصر النيل الآن، ورأي الخديوي توفيق أنه يحتاج لمظهر يليق بهيبة اسم والده، فأمر بوضع أسدين علي كل مدخل، واستعيض عن التماثيل عند افتتاح حديقة الحيوان عام 1891، بلوحات مجسمة علي المدخل تتصور مختلف حيوانات الغاب. فهل يكون الانتقال إلي العاصمة الإدارية فرصة لكي نعيد إلي القاهرة رونقها بعد أن تتخفف من بعض ما أثقل عليها سنين طوالا، هل تسمح عندئذ الظروف بالعناية بالمعالم الحضارية لهذه المدينة الخلابة، فنقوم بترميم وتجميل آثارها المعمارية والفنية، وتوضع علي كل منها لافتة تروي تاريخها؟.. أم تراني أحلم؟! لمزيد من مقالات محمد سلماوى