كانت الانتفاضة الطلابية والاضرابات العمالية ومواقف المثقفين المصريين فى بداية السبعينيات من القرن الماضى تجسيدا لبداية مرحلة جديدة فى نضال الشعب المصرى من أجل اقامة دولة ديمقراطية ترتكز على المشاركة الشعبية والعدالة الاجتماعية، وهناك بالفعل فرص حقيقية للتحول الديمقراطى، فضلا عن الاتفاق بين أوسع القوى الاجتماعية والسياسية على ضرورة. هذا التحول، فمصر تملك الدعائم والمقومات الأساسية لهذا التحول، فعلى الصعيد الثقافى، يعد التسامح السياسى من القيم المقبولة أو المتبعة، وعلى الصعيد المؤسسى فى مصر بنية مؤسسية غنية ومتطورة وقابلة للممارسة الديمقراطية. وقد تزايد الاتفاق بين أوسع القوى السياسية النشطة فى مصر والتى تشمل قوى يسارية ويمينية حول أهم أسس ومكونات برنامج الإصلاح الديمقراطى وتشمل: الإصلاح الدستورى والقانونى لإقامة دولة ديمقراطية برلمانية- تجديد النخبة السياسية- إصلاح النظام الحزبى- إصلاح النظام الانتخابى- تدعيم دور واستقلالية المجتمع المدنى- إصلاح أجهزة الدولة وإعادة الاعتبار لدورها- تطوير عملية صنع وتنفيذ السياسات العامة- تكريس اللامركزية ماليا وإداريا وسياسيا- نشر ثقافة الديمقراطية. وقد واجه هذا النضال الديمقراطى تحديات عديدة حالت دون تحققه فى مقدمتها تحدى المشاركة الشعبية الناتج من حالة ضعف المجتمع المدنى بمنظماته المختلفة نتيجة تهميش السلطة له على مدى هذه السنوات وهو ما يسر عملية هيمنة الدولة على المجتمع، ويسر تحول هذه الدولة إلى لاعب سياسى وحيد، وأن يكون لها تنظيمها السياسى الوحيد فى مرحلة، وحزب كبير مهيمن فى مرحلة تالية، وهو يهيمن فى صورة تعددية مقيدة هى ما يمكن اعتبارها وصفا للتجرية الليبرالية الجديدة فى العقود الاربعة الأخيرة باستثناء السنة الاولى من عمر ثورة 25 يناير، والنتيجة ضعف الفاعلية الحزبية، وتكريس ضعف أشد خطرا لفاعلية المجتمع المدنى. وهذا الضعف فى فاعلية الأحزاب السياسية هو تعبير عن أزمة مترسخة فى فاعلية المجتمع، وهى أزمة ناتجة عن ضعف تاريخى فى تكوين المجتمع المدنى الحديث كقاعدة وأساس لقيم التعددية والديمقراطية، وهو ما يعتبر كابحا مجتمعيا لانطلاق قيم الليبرالية السياسية وانطلاق فاعلية الأحزاب السياسية، وكبح تنمية العلاقات السياسية القائمة على المواطنة وانسحاب المجتمع من عملية التنمية بأبعادها المختلفة، حيث يصير السلوك الانسحابى وسيادة قيم اللامبالاة أمراً معتادا، ولعل تدنى نسبة المشاركين فى الانتخابات التشريعية لمجلس الشعب المصرى فى نهاية 2005 والتى لم تتعد 26% من مجموع الناخبين، هذا السلوك يعبر عن حالة من فقدان الثقة بين الدولة والمجتمع، وقد زاد من تعميق أزمة الفاعلية فى المجتمع، ما أصاب المجتمع من عمليات تفتيت للكتل الاجتماعية الرئيسية وزيادة فئات المهمشين خاصة فى العقود الأربعة الأخيرة وهو ما كان أحد الأسباب الرئيسية لثورة 25 يناير. فقد تفتت الطبقة الوسطى وخاصة كتلتها البيروقراطية والتكنوقراطية الكبيرة العاملة فى القطاعات الصناعية للدولة وتدهورت مكانتها مع التحول من نظام رأسمالية الدولة إلى نظام الانفتاح الاقتصادى والخصخصة، وتدهورت مكانة فئاتها الوسطى الفكرية والثقافية من الكتاب والمفكرين وأساتذة الجامعات مع هذا الانتقال والهجرة للعمل فى البلدان النفطية، وصعود الفئات الجديدة، وانسلخت فئاتها العليا من كبار المهندسين والأطباء ورجال الأمن والمحامين والمحاسبين صعوداً لأعلى وهبطت فئاتها الدنيا لأسفل، وكان لهذا التفتت أثر سلبى فى حيوية وفاعلية المجتمع والأحزاب السياسية، وبرزت ظاهرة العشوائيات والمناطق العشوائية وما تحمله من مهن وقيم تتسم بالعشوائية والخرافة وسيادة العنف والجريمة وظواهر البطالة وسكن القبور ومدن الصفيح وكلها ظواهر كابحة للاهتمام بالعمل السياسى، ولم تفلت الطبقة العاملة من التفتت (كما لم يفلت الريف أيضا من هذه الظاهرة (سيادة المهن غير الزراعية على المجتمع الريفي) الأمر الذى أدى الى إحداث حالة من القلق المعيشى والخلل الاجتماعى بترك أوسع الفئات الاجتماعية أسيرة الجرى وراء الحد الأدنى لنفقات المعيشة، وبتفاعل هذا الوضع مع الضعف التاريخى للمجتمع المدنى غدت قضية تحدى المشاركة قضية تحد رئيسية. وهكذا يتأكد ان بناء دولة ديمقراطية فى مصر ترتكز على المشاركة الشعبية والعدالة الاجتماعية لا يمكن أن تتحقق ما لم تنجح الجهود فى التمكين للمواطنين من تنظيم أنفسهم فى أحزاب سياسية ونقابات عمالية ومهنية ومنظمات اجتماعية وجمعيات أهلية، الأمر الذى يعزز قدرتهم على المشاركة فى العمل العام والتأثير إيجابيا على عملية بناء الدولة الديمقراطية. لمزيد من مقالات عبدالغفار شكر