تمثل الانتخابات الدورية التى تتسم بالحرية والنزاهة والشفافية إحدى الآليات الحقيقية للديمقراطية، ولكن من الخطر اختزال الديمقراطية فى مجرد إجراء انتخابات حرة ونزيهة، لأن ذلك من شأنه تكريس «ديمقراطية انتخابية» ليس إلا، حيث إن الانتخابات الحرة هى مجرد آلية لتحقيق مبدأ التداول السلمى للسلطة. وهذا أحد عناصر الديمقراطية، ولكن ليس كل الديمقراطية. فماذا بعد إجراء الانتخابات؟، وماذا بعد الوصول إلى السلطة؟. إن تجارب التطور السياسى على الصعيد العالمى تؤكد أن هناك الكثير من الحكام الذين وصلوا إلى السلطة عبر صناديق الانتخاب، ثم انتهكوا كل قواعد الديمقراطية، ومارسوا أبشع أنواع الدكتاتورية. ولاشك فى أن مصر أحوج ما تكون فى هذه المرحلة الفاصلة من تاريخها إلى ترسيخ عملية التحول الديمقراطى من خلال مبادئ وإجراءات عديدة أبرزها: توفير ضمانات نزاهة الانتخابات على مختلف المستويات (رئاسية، برلمانية، محلية، نقابية، طلابية...إلخ)، بحيث يتم إشاعة ثقافة «الانتخابات النزيهة»، وإحداث قطيعة مع إرث الماضى البغيض بشأن تزوير الانتخابات من خلال أساليب ناعمة وخشنة، جعلت مصر تمثل حالة نموذجية،لها إبداعاتها الخاصة،فى فنون تزوير الانتخابات. وأياً كان الفائز فى الانتخابات الرئاسية المقبلة، فإن هناك خمسة شروط رئيسية للتحرك بفاعلية على طريق ترسيخ عملية التحول الديمقراطى فى مصر. أولها، احترام حقوق الإنسان، ويقتضى ذلك تحقيق نوع من التوازن بين هدف مكافحة الإرهاب من ناحية، ومبدأ احترام حقوق الإنسان وحرياته من ناحية أخرى، فعمليات مكافحة الإرهاب لاتبرر بحال من الأحوال أى تجاوزات على حقوق المواطنين وحرياتهم، وأى ممارسات من هذا النوع يتعين الكشف عنها، ومساءلة المسئولين عن ارتكابها. ولن يتحقق هذا إلا من خلال إعادة الاعتبار لهيبة الدستور والقانون، فالدستور الجديد يحتوى على كثير من الضمانات لاحترام حقوق الإنسان، ولذا يتعين على الرئيس الجديد وحكومته وضعها موضع التطبيق. ونظراً لأن حالة الانفلات الأمنى التى تشهدها البلاد هى فى جانب مهم منها نتيجة طبيعية لتراجع هيبة الدولة وغياب احترام القانون، فإنه من الصعب جداً تحقيق تقدم على طريق التحول الديمقراطى دون تحويل مبدأ سيادة القانون إلى واقع يشعر به الناس فى حياتهم اليومية، بحيث يُطبق القانون بحزم على الجميع دون أى استثناءات، وذلك هو المدخل الطبيعى لاستعادة هيبة الدولة. أما الشرط الثاني، فمفاده أن عملية إعادة الاعتبار لهيبة الدولة وسيادة القانون لن تتحقق دون الشروع فى عملية إصلاح مؤسسى بشكل تدريجى ومدروس، فالكثير من أجهزة الدولة ومؤسساتها يعانى أمراضا مزمنة تحد من قدرتها على القيام بوظائفها بفاعلية وكفاءة. وقد تزايدت حدة هذه الأمراض على أثر حالة الارتباك والتخبط التى أعقبت ثورة 25 يناير. وبدون مؤسسات فعالة تخضع للمساءلة والمحاسبة لن يكون بمقدور أى رئيس أو حكومة وقف حالة التدهور التى تعانى منها البلاد، ووضعها على بداية الطريق الصحيح لتحقيق التنمية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وثمة ثلاثة قطاعات مهمة يتوجب أن يكون إصلاحها على رأس أولويات الرئيس الجديد، وهى: الأمن والقضاء والأجهزة الرقابية، فلاديمقراطية ولا تنمية بدون أمن، وهذا لن يكون إلا بإصلاح الأجهزة والمؤسسات الأمنية سواء على مستوى عقيدتها وفلسفتها، أو هياكلها وآليات عملها، أو طرق تعاملها مع الجمهور، كما أنه لاديمقراطية بدون عدالة ناجزة ينهض بها نظام قضائى فعال ومستقل، وهو مايتطلب إصلاح المنظومة القضائية وفق رؤية عصرية متكاملة تعزز استقلال القضاء من ناحية، وتعالج بعض السلبيات وأوجه القصور التى يعانى منها من ناحية أخرى. وبالإضافة إلى ذلك، فإن تفعيل دور الأجهزة الرقابية هو أمر فى منتهى الأهمية من أجل محاصرة شبكات الفساد التى تحولت إلى مؤسسات ضخمة. وبخصوص الشرط الثالث، فهو يتمثل فى تسريع عملية تحقيق العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، حتى الآن لم يتم اتخاذ أى خطوات جدية على طريق تحقيق العدالة الانتقالية رغم أهميتها البالغة فى تهيئة ظروف مواتية للمصالحة الوطنية، وتيسير عملية التحول الديمقراطي. ويقتضى هذا الأمر إصدار قانون عصرى للعدالة الانتقالية يستفيد من التجارب الناجحة فى هذا المجال، وبخاصة فيما يتعلق بالمصارحة والمكاشفة عن الانتهاكات التى تمت فى الماضي، وإجراء محاكمات عادلة لمن يثبت تورطه فيها، وإعادة الاعتبار للضحايا والمتضررين وتعويضهم بشكل لائق ومناسب، وإصلاح المؤسسات، وإيجاد الضمانات التى تحول دون تكرار الانتهاكات. وفى ضوء ذلك يمكن خلق أرضية مناسبة لمعالجة حالة الانقسام السياسى فى البلاد. وإذا كان الإخوان يشكلون عقدة بهذا الخصوص فإن تطبيق الدستور والقوانين بشكل حازم وفعال من شأنه وضع حل لهذه العقدة. أما الشرط الرابع، فهو تحقيق العدالة الاجتماعية. من المعروف أن مطلب العدالة الاجتماعية كان من بين المطالب الرئيسية لثورة 25 يناير. ويصعب الحديث عن تحول ديمقراطى حقيقى دون أن تكون هناك سياسات وإجراءات جادة لتحقيق العدالة الاجتماعية، لأن التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية تغذى ظواهر الاحتجاج الجماعى والعنف السياسي، مما يخلق حالة من عدم الاستقرار تسهم فى تعثر عملية التحول الديمقراطي. إذن من المهم مصارحة الشعب بحقيقة الأوضاع الاقتصادية، وتحقيق العدالة فى توزيع أعباء التنمية وعوائدها. وهناك الكثير من الأفكار والرؤى الجيدة بهذا الخصوص. وبخصوص الشرط الخامس، فهو يتمثل فى إشاعة قيم وثقافة الديمقراطية على مستوى المجتمع، وذلك من أجل محاصرة منظومات القيم والممارسات الفاسدة التى باتت منتشرة على نطاق واسع، والتى تتمحور حول مفردات التخوين والتكفير والعمالة وغيرها. وهى تشكل عقبة رئيسية أمام أى تطور ديمقراطى حقيقى. ولن يتحقق ذلك إلا من خلال التزام الأحزاب السياسية والنقابات المهنية والجمعيات الأهلية وغيرها من منظمات المجتمع المدنى بتطبيق أسس ومبادئ الديمقراطية فى إدارة شئونها الداخلية، فضلاً عن إشاعة قيم التسامح السياسى والفكرى، وثقافة احترام القانون، والقبول بالتعدد والاختلاف، والالتزام بالحوار وتجنب اللجوء إلى العنف كآلية لحل الخلافات بين مختلف فئات المجتمع. ورغم ان إشاعة قيم وثقافة الديمقراطية تحتاج إلى بعض الوقت، إلا أنه من المهم البدء فى هذه المهمة بشكل صحيح. فهل مصر برئيسها القادم وأحزابها ومجتمعها المدنى ونخبها السياسية والفكرية وقواها الاجتماعية والسياسية قادرة على إنضاج هذه الشروط؟. هذا هو التحدى! لمزيد من مقالات د. حسنين توفيق إبراهيم