الروائى الليبى إبراهيم الكونى درس الأدب فى موسكو, حيث حصل على درجة الليسانس ثم الماجستير من معهد جوركى للآداب هناك. وفى أثناء هذه السنوات فى سبعينيات القرن الماضي، اطَّلع على نظرية الناقد المجرى جورج لوكاش حول نشأة وطبيعة الرواية؛ وأنها فن مدينيّ، وُلِد وترعرع واكتسب سماته فى المدينة, كنبات لا نموّ له إلا فى بيئته الطبيعية. لكن الكوني, طالِب الأدب وابن الصحراء الذى سيكون خلال بضع سنين روائيّ الصحراء, تساءل بينه وبين نفسه عن مدى صدقية هذه المقولة، ثم ما لبث أن أثبت بأعماله أن الإنسان لا المدينة هو وطن الرواية، وأن الصحراء، التى تبدو خلاء، محتشدة بالحضور الإنسانيّ, حيث الماضى والحاضر والمستقبل مجتمعون فى اللحظة نفسها. والكونى ابن مدينة غدامس الليبية التى هى واحة نخيل تقع فى المثلث الحدودى بين ليبيا وتونس والجزائر, سكانها الأصليون من الأمازيغ والطوارق الذين ينتمى لهم إبراهيم الكوني. والطوارق هم الأمة الأمازيغية التى تستوطن جنوب غرب ليبيا وجنوبالجزائر وشمال مالى وشمال النيجر، ويتحدثون اللغة الطارقية, التى يُطعِّم الكونى ببعض مفرداتها وبأبيات من أشعارها رائعته الروائية, «المجوس», التى صار يعدها نقاد الغرب مرجعاً فى فن الرواية؛ لأنها قلبت المفهوم الكلاسيكى المستقر بأن الرواية فن مديني, كما يعدها النقاد العرب العمل المركزى لإبداع إبراهيم الكونيّ فى فن الرواية. والرواية من جزءين، صدر الأول منهما عام 1990, والثانى عام 1991. وهى عمل ضخم يبلغ نحو ثمانمائة صفحة من القطع الكبير، والعجيب أن الكونيّ انتهى منه بجزءيه فى عشرة أشهر. وقد قرأته أخيرا فى طبعته الجامعة التى ضمت جزءيه, الصادرة عن دار سؤال للنشر ببيروت 2015. وهى الطبعة الثامنة للرواية, التى فاز الكونيّ عنها, فى ترجمتها الألمانية, بجائزة الدولة للأدب فى سويسرا وتُسمَّى جائزة اللجنة العليا للآداب المنشورة باللغة الألمانية. كما حصلت على المركز الحادى عشر فى قائمة أفضل مائة رواية عربية. وقد رُشِّح الكونى عدة مرات لجائزة نوبل فى الأدب, ونالت أعماله الروائية خمس عشرة جائزة دولية. ففازت روايته «واو الصغرى» بجائزة التضامن الفرنسية مع الشعوب الأجنبية عام 2002, وبجائزة الترجمة الوطنية الامريكية عام 2015. وحصلت روايته «نداء ما كان بعيدا» على جائزة الشيخ زايد للكتاب فرع الآداب عام 2007, وفاز عن مجمل أعماله الروائية بجائزة ملتقى القاهرة الدولى الخامس للإبداع الروائى فى عام 2010. كما رشحت روايته «ناقة الله» للقائمة القصيرة لجائزة مان بوكر الدولية لعام 2015. وقد ترجمت أعماله حتى الآن إلى أربعين لغة. وله إلى جانب الروايات, كتابات فى النقد وفى اللاهوت, منها سلسلة كتب بعنوان بيان فى لغة اللاهوت يبحث فيها عن اللغة التى انبثقت منها اللغات والحضارة الأولى التى نبعت منها الحضارات. ويبلغ مجمل كتبه 81 كتاباً. وهو يجيد, إلى جانب العربية والطارقية, الروسية والألمانية والإسبانية والإنجليزية واللاتينية. والكونى روحياً, وليس فقط عرقيا وقبليا, ينتمى للرُحَّل. وأبسط دليل على هذا أنه كما سجّل فى نهاية كل جزء من روايته تنقّل خلال الأشهر العشرة التى كتب فيها المجوس ما بين أوبارى (فى الصحراء الليبية), والعاصمة طرابلس, وسرت, وليماصول (فى قبرص), وموسكو, وجنيف, ومصراتة, وطرابلس مرة أخري. هذه الروح المهاجرة التى لا تستقر فى مكان هى روح الصحراوى الأصيلة, كما سنرى بإذن الله فى المقال القادم ونحن نتأمل عن قرب عالم إبراهيم الكونى فى روايته المجوس. لمزيد من مقالات بهاء جاهين