الهرمنيوطيقا كلمة يونانية الأصل ترتبط بالفعل اليونانى Hermeneuein الذى يقوم معناه على أبعاد دلالية ثلاثة. يتصل أولها بمعنى التلفظ والنطق وتحويل المكتوب إلى منطوق، فيرادف المعنى المباشر للقراءة من حيث هى أداء لمعنى وإبلاغ له، ويتصل ثانيها بالشرح والتوضيح وتحويل الغامض المبهم إلى واضح جَلى، أو الكشف عما يقع فى الدلالة الظاهرة من دلالة باطنة، ويتصل ثالثها بالترجمة من لغة إلى أخرى، على نحو لا يفارق البُعدينِ السابقينِ فى الدلالة الأصلية التى يشير فيها الفعل اليونانى القديم إلى نشاط إنتاج الخطاب، تمامًا مثلما يشير إلى فهم هذا الخطاب، على نحو يقرن هذا الفعل بعملية «التفسير» و»التأويل»، ويقرن معناها بالفهم والكشف والتعرف، داخل المعنى المعاصر للمصطلح. ....................... وسواء أنظرنا إلى (التفسير) على أنه يرادف (التأويل)، أو ميَّزنا الأول بالعمومية والثانى بالخصوصية، فإن العملية التى ينطوى عليها كل منهما فى العموم والخصوص- قرينة العملية التى تتضمنها القراءة. ولعل الأدق أن نقول إن هذه هى تلك، بمعنى أن كل قراءة هى عملية تفسير أو تأويل، وكل عملية تفسير أو تأويل هى قراءة فى الوقت نفسه، فكلتاهما عملية أداء لمعنى أو إنتاج له، بشرط أن نفهم أداء المعنى أو إنتاجه بوصفه مُحصِّلة لفهم الموضوع المقروء، وتعرُّفًا عليه واكتشافًا له، وتحديدًا لمغزاه والغاية المرادة منه، على نحو ما تدركه الذات القارئة فى علاقتها بالموضوع المقروء. هذه الذات القارئة لا تقيم علاقتها مع موضوعها فى فراغ مطلق، أو هى صفحة بيضاء تمامًا، وإنما تُقبل عليه، وهى تحمل سلفًا - أهواء ذاتية، وميولًا سياسية أو اجتماعية مسبقة، بل توقعات قَبْلية تظهر آثارها على نحو مباشر أو غير مباشر. فى ناتج عملية القراءة تفسيرًا أو تأويلًا للنص المقروء. ولذلك تعلمنا أنه لا توجد قراءة بريئة، وأن كل قراءة هى فعل تفسيرى أو تأويلى من القارئ للنص المقروء. ويعنى ذلك أن تفسير النص أو تأويله هو النص نفسه، لكن مضاف إلى هموم وتوقعات ومُسلَّمات مسبقة للقارئ الذى يقوم بتفسير النص أو تأويله. ولقد عرفتُ هذه «الهرمنيوطيقا» وصدمنى معناها أول ما عرفتُ الكلمة الأجنبية. والأمر الذى قادنى إلى التعرف على مجالاتها، ما قرأته سنة 1977 من كتاب للباحث الأمريكى ريتشارد بالمر عن الهرمنيوطيقا، وقد طبعته جامعة نورث وسترن سنة 1969، وكان هذا الكتاب مدخلى الأول إلى هذا العلم الذى لفت انتباهى ودفعنى دفعًا إلى قراءة المزيد عن هذه «الهرمنيوطيقا» التى فُتنتُ بها فى ذلك الزمن البعيد، ودفعتنى إلى أن أقرأ بعض المراجع الأصول التى اعتمد عليها «بالمر» نفسه، وكان أول الكتب التى قرأتها فى دائرة هذا الاهتمام، كتاب إريك دونالد هيرش: «سلامة التفسير» الأدبى أو التأويل الدينى للنص of interpretation Validity، وهو كتاب لا يتحدث عن الصواب أو الخطأ فى عملية التفسير بقدر ما يتحدث عما نسميه سلامة التفسير أو عدم سلامته فى العملية التأويلية أو التفسيرية التى يقوم بها القارئ فى تأويل النص أو تفسيره. وسواء أكُنا نترجم «الهرمنيوطيقا» على أنها معضلة العلاقة بين النص المقروء وقارئه المُفسر أو الموؤل على السواء، سواء على مستوى الإفراد أو الجمع، فإنها مجال معرفى قديم وجديد فى آن. تتعدد فيه المناهج فيما يتصل بتفسير النص أو تأويله، سواء أكان هذا النص دينيًّا أو أدبيًّا أو تاريخيًّا أو قانونيًّا أو عملًا تشكيليًّا (لوحة أو تمثالًا) ف «الهرمنيوطيقا» مصطلح قديم بدأ استخدامه أولًا فى دوائر الدراسات اللاهوتية ليشير إلى مجموعة القواعد والمعايير التى يتبعها المفسِّر أو الموؤل للنص الدينى، وهو الكتاب المقدس أولًا، وذلك على أساس أن الهرمنيوطيقا هى المجال المعرفى الذى يرتبط بالقواعد العملية التى تتحكم فى تفسير النص الدينى أو تأويله على السواء. ويعود قِدم المصطلح للدلالة على هذا المعنى المزدوج إلى عام 1654 ولا يزال مستمرًا إلى اليوم ابتداء من الأوساط البروتستانتية ومنه إلى غيرها من الأوساط فى مجال علم اللاهوت إلى أن انتقل المصطلح من علوم الدين إلى دوائر أكثر اتساعًا تشمل العلوم الإنسانية والاجتماعية على السواء، وتجد مجالاتها التطبيقية الحيوية فى كافة العلوم الإنسانية التى تبدأ من التاريخ والاجتماع ولا تنتهى بفلسفة الجمال والنقد الأدبى والفلكلور، بل تجاوزها إلى الدراسات القانونية والسياسية خصوصًا فيما يختص بالمعاهدات السياسية أو الاتفاقيات الدولية. وقد وجدتُ فى الدراسات التى تتناول العلاقة بين القارئ والنص المقروء، أن مصطلح الهرمنيوطيقا يمكن تعريفه على أنه منهج أو مجال معرفى على السواء، وذلك من حيث دراسة العلاقة بين ثلاثية (المؤلف، والنص، والقارئ) أو ثلاثية (القصد والنص والتفسير). هذا ما كنتُ أعرفه إلى عهد قريب، ولكنى فوجئتُ أن الهرمنيوطيقا المعاصرة تجاوزت المجالات التى أعرفها واقتحمت مجالات جديدة فى العلوم الاجتماعية (مثل الانتماء العِرقى، والنوع) والطبيعية (مثل الصحة والطب والطبيعة والبيئة) والهندسية (مثل العمارة والتصميم الهندسي) فضلًا عن الاجتماعية الإنسانية (مثل التحليل النفسى، والحياة والعالم، ونظرية العلم، والدراسات البينية، وأخيرًا: فقه القانون، ونظريات الترجمة). والحق أن تصور العلاقة بين ثلاثية ( القصد، والنص، والتفسير) وفهم قواعدها على هذا النحو أو ذاك، هو ما يحدد المنهج الذى نستخدمه فى هذا المجال المعرفى الذى اتسعت حدوده وأبعاد تطبيقاته. وللأسف فنحن لا نزال، فى جامعاتنا المصرية على الأقل نخلط بين المجال المعرفى والمنهج، وكلاهما شيء مغاير للآخر، والخلط بينهما مظهر من مظاهر الخلط المنهجى الذى نعانى منه إلى اليوم فى أغلب أقسام اللغات أو الكليات التى ترتبط الهرمنيوطيقا بعلومها، أو تتداخل وإياها، فالمجال المعرفى هو الدائرة الواسعة التى يتلاقى فيها أكثر من علم، كالهرمنيوطيقا التى تضم دائرتها المتسعة العلوم الدينية بكل مناهجها التى يمكن أن تتجاور أو تجاور الفلسفة التأويلية وعلوم الاتصال والجماليات والآداب والفنون والقانون والسياسة. وأما المنهج فهو الطريقة القائمة على مقاربة بعينها، متماسكة منطقيًّا، ومتضافرة صوريًّا، وتتميز بنوع من التعميم والتجريد الذى يجعل المنهج الواحد قابلًا للتطبيق على ظواهر عديدة، لا نهاية لها ولا حصر، ما ظلت قابلة للمنهج الذى لا علاقة لمبادئه المنطقية الكُليَّة بقيود الزمان أو المكان أو حتى الدين، فالمنهج يتصل بتجريد المبادئ الصورية للعلم لا مادته. ولذلك يمكن للهرمنيوطيقى أن يكون عقلانيًّا شكلانيًّا، كما يمكن أن يكون بنيويًّا أو تفكيكيًّا. وأذكرُ أننى بعد أن عدتُ من الولاياتالمتحدة سنة 1978 وأنشأنا بعدها بعامين مجلة «فصول» سنة 1981، كان عددها الثالث الذى صدر فى أبريل يحمل أولى الدراسات العربية عن الهرمنيوطيقا بقلم المرحوم نصر حامد أبو زيد بعنوان: «الهرمنيوطيقا ومعضلة تفسير النص». وكان ذلك نابعًا من إدراكى بأن معرفة الهرمنيوطيقا ومناهجها المختلفة مسألة أساسية جدًّا فى مواجهة معضلة تفسير النص أو قراءته. وكان مصطلح «القراءة» قد أخذ يشغل انتباه النقاد ودارسى الأدب على الأقل، وبالطبع لم يكن معروفًا عند دارسى القانون أو الاجتماع أو حتى العلوم السياسية، ناهيك عن العلوم الطبيعية، ولذلك ألححتُ على صديقى الدكتور نصر حامد أبو زيد أن يكتب فى هذا الموضوع الذى كان قد أخذ ينشغل به نتيجة دراسته لعمليات تأويل النص الدينى سواء فى الفكر الاعتزالى أو التصوف. ولم يكن من المصادفة أن تكون «إشكالية المجاز» هى أطروحته التى نال بها درجة الماجستير، و»إشكالية التأويل» هى أطروحته التى نال بها درجة الدكتوراه. ولذلك كان من الطبيعى أن يهتم رحمه الله - بدراسة الهرمنيوطيقا ومعضلة تفسير النص. وبالفعل انتهى من دراسته فى هذا المجال ونشرناها له فى الجزء الثانى من «مناهج النقد الأدبى المعاصر» الذى صدر فى العدد الثالث من مجلة «فصول» فى أبريل 1981. وكانت الدراسة عرضًا طيبًا لكتاب «بالمر»، وسائرة على دربه التاريخى الذى يعرض لتطور المفاهيم والإشكاليات الهرمنيوطيقية عبر التاريخ، مركِّزًا على الشخصيات التاريخية المؤسسة للهرمنيوطيقا. وأولها: شلاير ماخر (1768-1843) الذى نقل الهرمنيوطيقا من دوائر الدين إلى دوائر العلوم الإنسانية. وثانيهما: دلتاى (1833-1911) الذى حاول أن يقيم العلوم الاجتماعية على أساس منهجى مختلف عن العلوم الطبيعية. وثالثهما: مارتن هايدجر (1889-1967) الذى وصل وصلًا تبادليًّا بين الهرمنيوطيقا والفلسفة، فجعل الفلسفة هرمنيوطيقا والهرمنيوطيقا فلسفة، ما ظلت الفلسفة هى فهم الوجود. وتتكامل الهرمنيوطيقا مع هانز جورج جادامر (1900-2002) الذى يعدونه مؤسس الهرمنيوطيقا المعاصرة فى كتابه: «الحقيقة والمنهج» الذى يعد الأساس الفلسفى للهرمنيوطيقا المعاصرة. ويختم نصر أبو زيد بحثه التعريفى بجهود الفيلسوف الفرنسى بول ريكور (1913- 2005) الذى أصدر كتابه المهم عن «نظرية التفسير» (Interpretation Theory: Discourse and the Surplus of Meaning) فى 1976. وما أكثر ما تجادلنا أنا ونصر- حول ترجمة الهرمنيوطيقا. وكنت أميلُ إلى الاقتصار فى ترجمتها على أنها علم التأويل وليس التفسير، بينما كان نصر رحمه الله - يخص بكلمة «التفسير» معنى المصطلح الأجنبيExegesis بوصفه مرتبطًا بالتفاصيل التطبيقية، أما «الهرمنيوطيقا» نفسها فتشير إلى ما كان يسميه «نظرية التفسير»، أو المبادئ المنطيقية للتفسير». وظل رأيى إلى اليوم أن «الهرمنيوطيقا» أقرب إلى علوم التأويل التى تغير النص من معناه الظاهر إلى معناه الباطن، أو على الأقل تنتقل بالمعنى من ظاهر المعنى الأول إلى حقيقة المعنى الثانى إذا استخدمنا لغة عبد القاهر الجرجانى، فعندما يحدثنا القرآن مثلًا فى آيتين من آياته بقوله: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ».(سورة القيامة: 22، 23). فإن ظاهر المعنى يؤدى إلى التجسيد بينما المقصود من المعنى تأويلًا حسب المعتزلة وأشباههم من العقلانيين- هو تنزيه الله، الذى يفرض تأويل معنى النظر بما يؤدى إلى التنزيه، فيصبح المعني: «وجوه مُتطلعة إلى رحمة ربها ورضوانه». وهذا هو معنى التأويل عند من كانوا يحرصون على استخدامه اصطلاحًا ليؤدى معنى التنزيه فى الإشارة إلى الله سبحانه وتعالى «الذى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» ولذلك ظللتُ أقرن «الهرمنيوطيقا» بمعنى التأويل أولًا والتفسير ثانيًّا إلى أن جاء أخى وزميلى محمد عنانى وترجم موسوعة الهرمونيوطيقا أو»The Rutledge Companions to Hermeneutics» التى أعدها يف مالباس Jeff Malpas وهانز هليموث ندرHans Helmut Gander وكتب مقدمتها التى تقرن الهرمنيوطيقا بالفلسفة يف مالباس الفيلسوف النمساوى المعروف بكتاباته فى الولاياتالمتحدة وأوربا، والذى يتميز بدراساته عن هايدجر. أما هانز هليموث ندر، فهو أستاذ بمعهد الدراسات المتقدمة فى جامعة فرايبورج، وهو دارس متميز يجمع بين دراسة الفلسفة وعلم النفس وتاريخ الفن والمسرح والسينما والدراسات التليفزيونية فى جامعات كولن وفرايبورج. والحق أن ترجمة محمد عنانى لهذه الموسوعة عمل بالغ الأهمية ينبغى أن يُحتفى به كل الاحتفاء فى ثقافتنا العربية، فمحمد عنانى ليس مترجمًا عاديًّا، وإنما هو شيخ المترجمين العرب بلا استثناء، فهو مترجم يندر أن يوجد مثله فى ثقافتنا العربية المعاصرة، سبق له أن ترجم نصوصًا مسرحية عديدة لشكسبير الذى يستكمل له حاليًّا ترجمة أعماله الباقية، فضلًا عن ترجمته العظيمة الرائعة لجون ميلتون «الفردوس المفقود» وغيرها من أعمال إدوارد سعيد ابتداء من «تغطية الإسلام»، إلى «صورة المثقف» و»الاستشراق». وله كتاباته المُعتَمَدة باللغة الإنجليزية، كما ترجم مجموعة من مقالات نقدية عن نجيب محفوظ ومقالات فى الأدب المقارن، فضلًا عن مختارات من شعر ما بعد الحداثة المصرى، وترجماته الأخرى إلى اللغة الإنجليزية، وله مؤلفات علمية فى الترجمة والنقد الأدبى، فضلًا عن أعماله العلمية التى أهَّلته لعدد كبير من الجوائز العربية والعالمية. ولذلك كان من الطبيعى أن يختم كل أعماله التى يفخر بها كما تفخر بها الجماعة الثقافية المصرية بما يتوج جهوده العلمية العظيمة بترجمة موسوعة «الهرمنيوطيقا». (وللتحليل بقية) لمزيد من مقالات جابر عصفور