إلى رائد الدرس الهرمنيوطيقى بالعربية الشيخ أمين الخولى عرفاناً بجهوده وتلامذته فى مدرسة الأمناء. تسهم المنابعُ المضمرة فى صياغة مقولات المتكلمين، وتكوين آراء المفسرين، واستنباط فتاوى الفقهاء، إلّا أن مناهجَ قراءة النص الدينى وأدواتِ النظر الموروثة لا تكشف عنها، فالرؤيةُ للعالم التى يتبناها المتكلمُ والمفسّر والفقيه مثلا، ونمطُ إيمانه ومعتقداتُه، ومحيطُه وثقافته، تعمل على فرض موقف يتناغم معها، فلو كان معتزلياً أو أشعرياً أو إمامياً أو ماتريدياً أو أباضياً، يبدو له معنى النص على وفق رؤيته الاعتقادية. ويمكن اكتشاف ذلك فى مدونات التراث كلها، بما فيها مدونات التصوف واللغة والأدب. نتعرف عبر المناهج الجديدة للقراءة على أن سياقات إنتاج المعنى فى مدونات علم الكلام، والتفسير، والفقه، والتصوف، والأخلاق، ترتبط بأحكام الباحث المسبقة، وكيفية تربيته، وطبيعة عصره، وموطنه، وبيئته، ومجتمعه، واثنيته، وثقافته، وخبراته الحياتية المتنوعة.كل هذه العوامل ذات تأثير فى تكوين فهمه. فالفقية مثلاً ترتبط فتاواه عضوياً، مضافا إلى ما سبق، بكيفية فهمه لمساحة الدين وحدوده وما يغطيه من مديات ومجالات الحياة. وذلك ما ترشدنا إليه الهرمنيوطيقا، إذ تشرح لنا كيف أن الكلمة تتراكم عليها طبقات،كأنها طبقات جيولوجية، وبمرور الزمن تضاف دلالات أخرى للكلمة حول نواة المعنى الأول. وتتناسب هذه الطبقات، كماً وكيفاً، مع: عمر الكلمة، وتطور دلالاتها، وتنوع استعمالاتها عبر التاريخ. وكأنها طبقات عمر الشجرة فى ألف سنة، أو طبقات جيولوجية لصخرة بعمر مليون سنة. الهرمنيوطيقيون بمثابة جيلوجيين يكتشفون طبقات فهم تتكدس لتحجب عنا بؤرةَ المعني، أى إنهم يحددون الأنساب والجذور الزمنية لانتماء كل طبقة للفهم، وكيف تتضخم لتطمر المعني، ويتعرفون على عمرها، وطبيعة العصر الذى توالدت فيه كل واحدة من الدلالات. إنهم يضيؤون صيرورةَ دلالة الكلمة عبر الزمان، وكيفية تشكّل معناها عند كل محطة فى فضاء علاقات السلطة والمعرفة، وأفق انتظار المتلقي، وأحكامه المسبقة، ومعتقده، وثقافته، وبيئتة، وطبيعة الاكراهات المتنوعة التى توجه عمليةَ بناء الدلالة، وتصوغ نوعَ الفهم. وبذلك نستطيع أن نتعاطى مع المدونة التفسيرية والكلامية والفقهية الموروثة بوصفها معرفةً بشرية تنتمى إلى سياقات تلقى وقراءة النص الدينى فى مراحله المتنوعة. ما يعنى أن كلَّ عصر ينتج مدونتَه الخاصة، وهى مدونة لا يتسع كلُّ ما فيها للعصور كافة، ولا تستوعب عناصرُ الفهم فيها مختلف الآفاق التاريخية. الهرمنيوطيقا تعمل على مواءمة النص المقدس مع روح العصر، وتبوح براهنية معانيه فى سياق لغوى ومعرفى وثقافى ومجتمعى راهن. وتمنحنا رؤيةً رحبة تعيد اكتشافَ مقاصد القرآن، وتضئ بصيرتنا بما تنشده رسالةُ الوحى للانسان، فى ضوء الأفق التاريخى لواقعنا. الهرمنيوطيقا تؤشر إلى أن النصَّ المقدس كائنٌ حي، تنبعث حياتُه وتتجدد كلما تجددت قراءتُه. إنها محاولة لتحريرِ النص من حمولة التفسير التاريخية التى ينوء بثقلها، وتحجبه عن التواصل مع العصر الجديد، وعتقِهِ من سجون السياقات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التى كبّلته بفهمها ومشروطياتها التاريخية الخاصة، بعد أن انغلقت على نفسها، بنحو أمست تكرر الفهمَ ذاته الذى يحكى ثقافةً لم يعد انسانُها موجوداً اليوم، ولم تعد وقائعُ حياته المختلفة حاضرة. إن أردنا أن يسجل الدينُ حضوراً فاعلاً فى بناء وإخصاب الحياة الروحية والأخلاقية، فلا يتحقق ذلك إلّا بقراءة جديدة للنص الديني. وإن محاولات رفض هذه القراءة انما هو ضرب من معاندة التاريخ، وتعطيل تدفق المنبع الروحى والأخلاقى للوحي. مع الواقع الذى يعيشه انسان اليوم فإن النصوص عطشى لفهم يحكى رهانات حياة الانسان المعاصر ومتغيراتها المتنوعة. ومادامت النصوصُ مكبّلةً بآفاق انتظار المتلقين أمس، وأحكامِهم المسبقة، وسوءِ فهمهم، وما راكمته تلك الآفاق الخاصة من معانٍ تشبه زمانها، يصبح توظيفُ الهرمنيوطيقا ضرورةً يفرضها منحُ النص حياةً جديدة، لينفتح على آفاق انتظار المتلقين اليوم، ويتيح لهم مواكبةَ عالَم متحول لا يكرر منطقَ الماضى ورؤيته للعالم. تتراكمُ بمرور الزمان طبقاتُ الشروح والتفسيرات على النص الدينى المؤسِّس، حتى تسجنَه، وتسجنَ الانسانَ داخلَها. الهرمنيوطيقا رحيقُ الحريةِ، ذلك أنها تمنحُ الانسانَ والنصَ خلاصاً من تلك السجونِ والأسيجةِ. إنها وعدٌ بإنجاز فهم تتحقق من خلاله أُلفة مع الواقع، إذ تبتكر فهماً يتناغم مع أسئلة الحياة الجديدة. إنها ضوءٌ ينشد تحيينَ النص عبرَ قراءةٍ تدمجُه بالواقع ومتطلباته، بعد أن لبثَ طويلاً لا يقرؤه كثيرون إلّا فى الظلام. من هنا تصبح قراءةُ النصوص المقدسة فى ضوء أدوات ومناهج الهرمنيوطيقا ضرورةً يفرضها تحريرُها من الاغتراب عن الواقع، وتحقيقُ الانسجام بين هذه النصوص والقارئ. إذ يحقق فعلُ القراءة هنا أُلفةَ القارئ للنص، أى إن القارئ مثلما يقرأ النصَّ يقرأ ذاتَه فى النص، لأنه يرى فى معنى النص ما يحيل إلي: عقيدة آمن بها، وأيديولوجيا تبناها، ومقولات شغف بها، وخبرة عاشها، وأفق انتظار يتطلع اليه. الهرمنيوطيقا تعمل على اختراق تلك الطبقات وتحرير فهم بديل فى سياق مواكب لمتطلبات هوية المسلم اليوم، كى لا تتصلب هذه الهوية، ولكى تنفتح على مكاسب العصر، وتتسع لاستيعاب ماهو مختلف. الهوية لم تعد أحاديةً، بل أضحت متعددة الأبعاد والوجوه، تتنوع وتتعدد أبعادها ووجوهها حسب المتغيرات المتدفقة باستمرار. استئناف الفهم التراثى للنص الدينى يفضى الى تصلب الهوية وتحجرها، وإخفاقها فى إعادة إنتاج ذاتها، فى سياق يواكب مستجدات العالم وتحولاته. كما تنجز الهرمنيوطيقا تفسيراً آخر لمفهوم الحقيقة، لا يكرر ما هو موروث، وانما يكشف عن الوجوه المتعددة للحقيقة، وأن ما يتجلى لكل شخص منها هو وجه من وجوهها. وكأن الحقيقة مرآة متعددة الوجوه، لا يرى من ينظر اليها أحدَ وجوهها فقط، بل يرتسم فيها شيءٌ من ملامح وجهه أيضاً. لقد أفضى التوكؤ على مناهج وأدوات جديدة فى قراءة النص الديني، والفهم المختلف للحقيقة، إلى نزع القناع عن التراث، ومساءلة التاريخ من جديد، وعبور الكثير من الاجتهادات التى تتحدث لغةَ زمانها فى تفسير النص، ولا يفهمها أى انسان يتحدث لغةَ زماننا. إلّا أن هذه الجهود واجهت مقاومةً عنيفة، إذ نعتها البعض بالعدوان على أمجاد الأمة، وطمس ماضيها المشرق، وجرى التشهير بكل باحث عَمَد الى إفشاء أسرار عمليات سوء فهم وتحريف وتزوير مفاهيم ومقولات ووقائع الماضي، أو حاول الكشفَ عن محاولات حذف وإقصاء معتقدات لا تتناغم مع الايديولوجيا التبجيلية التسلطية المهيمنة، أو سعى لإشهار المهمش والمسكوت عنه، أو فضح سطوةَ وقمع السائد والمتغلب فى التراث. وهكذا فإن كل قراءة للنص الدينى تتخطى التفسيرات المغلقة القديمة لا تمرّ من دون ضريبة. لذلك نجد الباحثين ممن يمتلكون خبرةً بمناهج القراءة الجديدة يهربون من توظيفها فى قراءة النص الديني، وغالباً ما يوظفونها فى قراءة النص الأدبى والأعمال الفنية والابداعية المختلفة الأخري،كأنهم يبحثون عن ملاذ يحتمون فيه من غضب أنصار التراث، لأن القراءة الجديدة للنص تجترح معانى لا تكرّر ما هو موروث من فهم للحقيقة الدينية، ذلك الفهم الذى تقدّس بمرور الزمن، وتوكأ عليه مفسّرو النص الدينى منذ عدة قرون، وتقدّس بعضهم تبعاً لتقديس ذلك الفهم. وانتهى ذلك إلى أن أكثر ما يُكتَب وينشر فى قضايا الدين والمجتمع والواقع لا يرقى الى متطلبات الفرد والمجتمع المسلم اليوم، وأكثر ما كُتِب أمس رغم أهمية شيء منه، إلا أنه لا يجيب عن شيء من أسئلتنا الكبيرة والحائرة اليوم. المؤسف أننا دائماً نذهب إلى الماضى نستفتيه فى إجابات أسئلة وحلول مشكلات أنتجها عالمُنا اليوم، وطالما خذلنا الماضى الذى أنجز إجاباتِه عن أسئلته وحلولهِ لمشكلاته الخاصة. لم يتنبه كثيرٌ من المختصين فى دراسة الدين والتراث إلى أن انسانَ اليوم غيرُ انسان الأمس، وأبديةَ أى نص مقدس تعنى أنه نصٌ ذو كثافة دلالية، إذ تتعدد وتتنوع دلالاتُه تبعاً لتنوع ظروف الانسان وأنماط حياته، وتبعاً لتنوع وتعدد سياقات التلقى عبر مختلف العصور. وإن الخلط بين سياقات عصر البعثة وسياقات عصرنا يخرج القرآنَ الكريم من حياتنا، ذلك أن سياقات تنزيله جاءت لتلبية احتياجات انسان الأمس، وهى تختلف عن سياقات تطبيقه أو تنزيله مجدداً على الحياة لتلبية احتياجات انسان اليوم المختلفة. الكثير من المفسرين تختلط لديه السياقات، فيعمم ما هو ظرفى تدبيرى تاريخى فى القرآن على كل ظرف وزمان ومكان، بينما يتطلب واقعُنا تفسيراً يتحدث الينا ويصغى لإيقاع عالمنا، وهو غير التفسير الذى كان يصغى لإيقاع عالم انسان عصر البعثة ويتحدث اليه، وهو ما نجده، على سبيل المثال، مع مفاهيم تداول السلطة والحقوق والحريات بالمعنى الجديد الذى لم يكن متداولا فى سياق الأفق التاريخى لعصر النزول. يفزع بعضُ دارسى الدين من الاختلاف فى فهم الدين والنص المقدس، فى حين أن مثلَ هذا الاختلاف حالةٌ بشرية لا تختص بديانة معينة، إذ ولد الاختلاف فى الفهم منذ وجود الانسان وظهور الدين فى حياته. افتراضُ ديانة فى الارض بنسخة واحدة كلامٌ غير واقعي، اذ لم تعرف البشريةُ ديانةً بنسخة واحدة أبداً، حتى فى ديانة آدم العائلية،كما تقص علينا التوراة والقرآن، فقد اختلف ولداه فيها حول فهم القربان. وهذا يعنى أن ليس هناك ديانة أو نص دينى خارج طرائق عيش الانسان وطبائع العمران، فالانسان يخضع لمشروطيات تفرض عليه نمطَ حياته وتؤثر فى سلوكه، وهي: الجسد، العقل، المشاعر، الغرائز، التربية، التعليم، اللغة، الثقافة، الدين، الاقتصاد، السلطة، التاريخ. ولا يتجسد الدين فى حياة الانسان إلّا تبعا لهذه المشروطيات. أى إن فهمَ الدين يتنوع بتنوع أنماط حياة الناس وطرائق عيشهم. ومعنى أن تصبح النصوصُ المقدسة معاصرةً لنا، هو أن فى كلَّ نص هامشاً حرّاً مفتوحا للقراءة الجديدة، وهو ما يمنح هذا النص إمكانات تخطى المسافات، وعبور غربة الزمان، وتموضعه فى مختلف الآفاق التاريخية. وذلك هو سرّ أبدية هذه النصوص، والذى لولاه لاختفت فور اغترابها عن أفقها التاريخي. رغم ذلك يصر مفسرو النص على إنجاز »قراءة تزامنية للنص«، قراءة تتموضع فى عصره، وتحكى مدلولَه لحظة انبثاقه، لكن ربما يتعذر فى عصرنا إنتاج مثل هذه القراءة، لأن النص بعد ولادته لا تحتكر معناه لحظةُ الولادة، فبعد أن ينخرط فى التاريخ يمسى فهمُه مواكباً لكل مرحلة من مراحل عمره، أى إنه فى المراحل اللاحقة ينتقل إلى فضاء فهم غير الفضاء الذى انبثق فيه، ما يعنى أن القراءات الآتية توجه بناءَ دلالاته وفهمه، وكلُّ قراءة تحيل إلى نمط رؤية زمانها للعالم، وتخضع لسياقات عصرها المعرفية، ولا تكون غريبةً عن النمط الوجودى لعالمها. فالهرمنيوطيقا ضرب من ترجمة النص المقدس وتحيينه عبر نقله من سياقات اللغة فى عصر النزول والتدوين إلى سياقات اللغة فى عصر التلقي؛ لأنها تبتنى على فرضية: أن ليس هناك فهمٌ نهائيٌ للنص، فكلُ قراءة تاريخية، ترتسم فيها بصمة القارئ، وتتلون بتضاريس عالمه. الهرمنيوطيقا قراءة للنص تعلن نسبيةَ كلّ فهم وانتماءَه للأفق التاريخى الذى يولد فيه، ففى كل محطة من محطات تاريخ النص ينبثق فهمٌ جديد. ما يعنى أنه لم يعد هناك فهمٌ بشرى مطلق للنص يخترق التاريخ، ويتعالى على أحوال الانسان، ويستقل عن طبائع العمران، ولا ترتسم فيه ألوان الزمان والمكان. يشير تاريخ الهرمنيوطيقا الى أنها ظهرت مع شلاير ماخر بمفهومها الجديد الذى يتلخص فى كونها: فن الفهم، أو فهم الفهم، أو معرفة الفهم، أو تشريح عملية الفهم، أو قراءة القراءة، إذ تنشد تحليلَ كيفية تلقى القارئ للمعني، وبيان ماهية فهمه، وما الذى يحدث عند فعل القراءة. فهى تفسير وتحليل لما يحدث فى الذهن لحظة فهم النص. إنها تُحلّل كيفيةَ وطبيعةَ تشكّل المعرفة لدى القارئ حين يقرأ النص، وهى بذلك تنتمى للعصر الحديث الذى ظل يثريها ويكرسها فيه التفاعل بين الفلسفة والمكاسب الجديدة للعلوم والمعارف الانسانية المتنوعة، واستلهام وتمثل معطيات كل منها للآخر. ومع كل من مارتن هيدغر وهانس جورج غادامر رفعت الهرمنيوطيقا بطابعها الفلسفى تفسيرَ الوجود والحياة والعالم والنصوص إلى الأفق الفلسفي، بمعنى أنها لم تتوقف عند قراءة النصوص والتراث الكتابى والشفاهي، بل ارتقت الى قراءة الوجود والعالم والذات والحياة والأشياء والتاريخ والأفعال والأحوال والعلوم والمعارف والفنون والآداب والنصوص المختلفة. وبعد أن ارتقى الفهم فى الهرمنيوطيقا الفلسفية إلى أن يكون حدثاً أنطولوجياً أصبح أساسُ الفهم هو الحياة والذات، وكلّ ما تحفل به أنماط وجودها وتاريخها ومشروطياته الزمانية والمكانية المتنوعة، بمعنى أنها اتسعت فتخطت فقهَ النصوص إلى فهم الوجود والذات. أما التأويل بمفهومه الموروث فقد ظهر فى السياق الاسلامى مبكراً، وهو بذلك ينتمى للتراث ممثلا بعلوم الدين والمعارف الاسلامية، كعلم الكلام وعلوم القرآن، أو علوم اللغة وآدابها، ولم تتخط مداراته منذ نشأته فقهَ النصوص، إذ يتوقف بمفهومه الموروث عند قراءة وتفسير النصوص مدونةً وملفوظةً. وفى الوقت الذى يبدأ فيه التأويل بالنص وينتهى بالنص، ويظل يدور فى آفاق ما يقوله النص، لا تهمل الهرمنيوطيقا كما أوضحنا لحظةَ ظهور النص، بل تحاول أن تستأنف هذه اللحظة، كيما تتعرف على الفضاء المجتمعى للفهم الذى واكب تشكّلَ النص، وكيف تخطاه فهمُ النص فى العصور التالية. بمعنى أنها تسعى لتضيء ما يكتنف لحظةَ انبثاق النص من ذاتية المؤلف وسياقات بيئته، والظروف المختلفة المحيطة بتشكّل النص. وكأن الهرمنيوطيقى يتموضع لحظةَ ولادة النص، ويعمل على إيقاظ الأفق التاريخى لولادته، عبر تفحص أفق انتظار المتلقى وقتئذ، وكيفية فهمه للنص. وفى ضوء كون الكلمات تحيل إلى أحكام - حسب نيتشه - تحيل الكلمات عضوياً إلى رؤية اللغة والثقافة المنتمية اليها للعالم، فكل مصطلح يشى بحمولة دلالية تتسع للنظرية والمنهج والمقولة والمفهوم والرأي، وبذلك فإن كلا من التأويل والهرمنيوطيقا يتسع لما يشى بشئ من ذلك، وهى بالضرورة ليست متطابقة، فنظرية التأويل أو نظرياته غير نظرية أو نظريات الهرمنيوطيقا، وهكذا المنهج أو المناهج التأويلية غير المنهج أو المناهج الهرمنيوطيقة، والمفاهيم والمقولات التأويلية غير المفاهيم والمقولات الهرمنيوطيقة. فالهرمنيوطيقا فى ولادتهها وتطورها ومجالات تداولها كمصطلح لا تتطابق مع التأويل، إن من حيث نشأة التأويل، أو استعمالاته وصيرورته فى سياق العلوم الاسلامية، ووفقا لأنطولوجيا اللغة - حسب هايدغر - لا يمكن نقل المصطلحات من مجالها التداولي، فى لغتها المشتقة منها الى لغة أخري، بانتخاب لفظ مقابل لها. فالهرمنيوطيقا نشأت فى سياق لغوى ومجال تداولى لاتيني، ولا يمكن تصنيع نسخة عربية مرادفة لها، وانما يمكننا توطين المصطلح ذاته فى السياق التداولى للغة العربية وغيرها من اللغات، مثلما اتسعت العربية وغيرها من قبل للمعجم الاصطلاحى - كما هو - للفلسفة والمعارف اليونانية وغيرها. فى ضوء ما ذكرناه لا يرادف مصطلح »الهرمنيوطيقا« مصطلح »التأويل« أو غيره، لأن معنى الهرمنيوطيقا لا يرادف معنى التأويل، لا وفقاً لفهم شلاير ماخر لها، أو فهم دلتاي، ولا وفقاً لفهم هيدغر وغادامير، ولا وفقا لفهم ريكور وهيرش وغيرهما. الهرمنيوطيقا والتأويل متوازيان لا مترادفان. والتوازى غير الترادف. مقدمة كتاب: الهرمنيوطيقا والتفسير الدينى للعالم »تحت الطبع«. وهو الجزء الرابع من: موسوعة فلسفة الدين، إعداد وتحرير: د. عبدالجبار الرفاعي. لمزيد من مقالات عبدالجبار الرفاعى;