فى ظل الحديث عما يطلق عليه تجديد الخطاب الدينى او ما أشار اليه الرئيس عبد الفتاح السيسى من اهمية حدوث ثورة دينية للخطاب الدينى خاصة بعد ما شهدته المنطقة من توغل وتفش للقوى الظلامية ينبغى تضافر جهود جميع المؤسسات للتصدى لهذه المفاهيم الضالة، وان تتكاتف لصياغة مشروع تنويرى حداثى تستطيع الامة من خلاله النهوض على مختلف الأصعدة. ولعل البعد الثقافى يعد احد اهم أركانها، نظرا للدور الذى يلعبه فى تشكيل الوجدان الجمعى عبر أدواته المختلفة للحفاظ على هوية الأمة بتعدد روافدها المختلفة، والحفاظ على الإرث التاريخى الذى يشكل قوام هذه الامة، ويحدد ملامحها وشخصيتها. فكما كان يقال فى الأدبيات الكلاسيكية، ان الاقتصاد يمثل البناء التحتى الذى بمقتضاه تتحدد جميع أشكال الوعى الاجتماعى (ابتداء من الدين وانتهاء بالفلسفة والاخلاق)، فان العامل الثقافى بات هو البناء التحتى الذى يستطيع بإسهاماته وأدواته ان يشكل جميع اشكال الوعى الاخرى. كانت الثقافة ولا تزال أسيرة رؤية متقاربة،نظرا لدورها المهم فى حياة البشر، وعلاقتها بين المادى والروحى، وكذا موقع الإنسان فى العملية الاجتماعية والخصائص الذاتية والقومية لتطورها، فالثقافة هى الحركة الحيوية للحياة، وهى تستند إلى موروثات اجتماعية وتاريخية تسهم فى تكوين جماعات البشر، وإنتاج ثقافتهم، وإعادة إنتاجها فى حيز قومى معلوم. وبالاستناد الى هذا المفهوم، فان إعادة انتاح الثقافة بل ورؤية الإرث الثقافى، هى ابنة الحاضر، لهذا فأن عملية إعادة الإنتاج من وجهة نظر تاريخ الثقافة هى عملية متصلة لا تنقطع، بغض النظر عن الزاوية التى نقيس منها مدى تطور الثقافة فى لحظة ما من لحظات الزمن. إذا كانت إحدى الطرق لفهم الواقع الاجتماعى المصرى تتمثل فى النظر للثقافة السائدة التى تحاول تشكيل إجماع وطنى والسيطرة عليه، فإن موضوعا مساويا لذلك من الأهمية هو موضوع مصر كمجتمع تعددى متنوع. لقد اشتبكت الثقافة بالسياسة، ومثلت عمودا مهما فى طبيعة النظام السياسى والتحولات السياسية، وتفاعلت معهما تأثرا وتأثيرا. ولعل ما مرت به مصر منذ يناير 2011، وما أفرزته من افكار وشعارات وممارسات، يفرض مناقشة الثقافة، باعتبارها فعل تغيير وتطوير للواقع المعاش، وذلك استنادا الى الطاقات البشرية القادرة على إنجاز ذلك الفعل، وهى تتمثل فى توظيف المهارات والخبرات العلمية والتقنية والإبداعية فى إطار مشروع ثقافى يعطى للسلطة المعرفية موقعها الطبيعى. وقد أدى العرف الليبرالى للديمقراطيات إلى وضع دساتير مدونة لتكون بمثابة القواعد الأساسية لحكم القانون، وكان تجميع وتنسيق الحقوق المدنية فى دساتير مدونة يعد ضمانة حاسمة ضد أى تجاوزات او انحيازات. وبناء على ذلك صحب اى تغير كبير فى النظام الحاكم إدخال اصلاحات دستورية. ولما كانت مصر من أوليات الدول فى الإقليم التى عرفت الدساتير المدونة، فان الثقافة لم تكن اهدافها محددة فيها بدءا من الدساتير التى بدأت من 1882 حتى 2013، الى ان جاءت ولاول مرة فى تاريخ الدستور المصرى الوثيقة الدستورية فى 2014 والتى افردت فصلا كاملا للمقومات الثقافية، شمل اربع مواد (47 50)، ومن أهم ما جاء فيها ما شملته المادة 48، نصا: الثقافة حق لكل مواطن، تكفله الدولة، وتلتزم بدعمه، وبإتاحة المواد الثقافية بجميع أنواعها لمختلف فئات الشعب، دون تمييز بسبب القدرة المالية، أو الموقع الجغرافى، او غير ذلك, وكذا الفقرة التالية نصا من المادة (50): ...وتولى الدولة اهتماما خاصا بالحفاظ على مكونات التعددية الثقافية فى مصر. والسؤال: إذا كان النص الدستورى يجبر الدولة او الحكومة على الالتزام بما سبق تضمينه فى النص، فهل تستطيع وزارة الثقافة بقطاعاتها وهيئاتها المختلفة ان تحقق هذا الالتزام وحدها فى ظل ميزانية متواضعة؟ كان من الضرورى بل والحتمى ان تتحدد مبادىء السياسة الثقافية بعد ثورة 30 يونيو، بغض النظر عن الاشتباك الدائر فى الساحة السياسية من انها استكمال لثورة يناير 2011، ام تصحيح لها. فالواقع يحسم الأمر بأن ثورة 30 يونيو أفرزت الوثيقة الدستورية التى نحن بصدد تحديد اولويات العمل الثقافى انطلاقا من نصوصها فيما يعرف بالمقومات الثقافية للبلاد. لذا، يجب تحديد السياسة الثقافية فى هذا الإطار بانتهاج عدة التزامات أهمها: (1) إن السياسة الثقافية هى سياسة الثورة المصرية التى تجسدت بعد يونيو 2013 مع حجم التحولات السياسية والاجتماعية، وبالتالى الفكرية والمعرفية والثقافية، حيث ان الثورة تهدف الى ان تكون الثقافة مبدأ أساسيا، وانها فى الأصل ثورة ثقافية، (معرفية) مع إزاحة القوى الماضوية الظلامية وافكارها، (2) الثقافة تساوى بين المواطنين، مع شمولية رسالتها وعالميتها ودعوتها للمواطنين من اجل التعاون والتعاضد العام، (3) الحفاظ على الهوية الثقافية المصرية متعددة الروافد، (4) اعتماد الثقافة يكون اساسيا فى خطط التنمية بكل معانيها، لا سيما وأنها تؤثر فيها سلبا وإيجابا. لذا فنصوص الوثيقة الدستورية التى شملها الفصل الخاص بالمقومات الثقافية ليس المنوط بتحقيقها وزارة الثقافة، وانما كل مؤسسات الدولة، بل فلنقل بكل جسارة ارادة المجتمع كله بالقناعة التامة بأهمية تحقيق هذا الهدف. فتجربة حكم الإخوان طوال عام أفصحت عن نيات الفاشية فى المجتمع التى مازالت مختبئة فى العديد من مؤسسات المجتمع تنتظر الفرص الملائمة للانقضاض على تاريخ الثقافة التنويرى والإبداعى. هنا.. لابد من القناعة التامة بان التنمية الثقافية، والحفاظ على الهوية المصرية بتعدد روافدها، هى فكرة جليلة وضرورية للبناء الاجتماعى الإيجابى والفعال. فالثقافة ستظل القاطرة التى تقود المجتمع بأكمله للحرية والعدل وحق الاختيار والاختلاف وحرية الفكر والتعبير والتفكير. لمزيد من مقالات صبرى سعيد