إستراتيجية الولاياتالمتحدة الجديدة لمواجهة ما وصفه جون بولتون مستشار الأمن القومى بالانقضاض الصينى والروسى على إفريقيا لا جديد فيها سوى توجيه اتهامات أشد للصين باستخدام أسلوب الرشوة واستغلال الفساد للفوز بمشروعات استثمارية وتعزيز نفوذها فى القارة، ويبدو من الصعب أن تتمكن واشنطن من اقتلاع بكين أو حتى وقف زحفها التجارى والاستثمارى حتى لو تخلت عن شروطها التقليدية، مثل انتهاج حكم ديمقراطى واحترام حقوق الإنسان وكبح الفساد لتقديم مساعدات تنموية وأمنية وعسكرية للدول الإفريقية. فالمنافسة مع الصين جاءت متأخرة وإن كان مازال بالإمكان خوضها مع روسيا التى بدأت بالكاد تعود إلى القارة بعد أن تخلت عن مراكز نفوذها القديمة عقب انهيار الاتحاد السوفيتى فى بداية تسعينيات القرن الماضي. الإستراتيجية التى أطلق عليها بولتون «مبادرة إفريقيا المزدهرة» لدعم الاستثمار الأمريكى فى القارة السمراء تقوم على ثلاثة محاور: الأول دعم التعاملات الاقتصادية لمساعدة الشركاء الأفارقة على تحقيق الاستقرار، والتأكد من الاستغلال الأمثل لأموال دافع الضرائب الأمريكى فى المساعدات الاقتصادية. والثانى محاصرة وملاحقة الجماعات الإرهابية مثل داعش والقاعدة فى إفريقيا، والثالث هو التوقف عن دفع أموال لبعثات الأممالمتحدة لحفظ السلام التى تم اتهام بعض أفرادها بارتكاب اعتداءات وجرائم جنسية فى دول إفريقية. وأكد ضرورة أن تعود العلاقات التجارية والاقتصادية بالمنفعة على الولاياتالمتحدة وتعزز مصالحها، مضيفًا أن واشنطن ستواصل عقد اتفاقيات التجارة الثنائية التى تساعد فى زيادة الوظائف للأمريكيين وتعزيز الصادرات الأمريكية، مشيرًا إلى أن بلاده قدمت مساعدات لدول إفريقية بلغ حجمها 8.7 مليار دولار عام 2017. ويتضح من المحاور الثلاثة أنه ليس فيها ما يغرى دولة إفريقية واحدة بتجاهل المساعدات التنموية والاستثمارات الصينية الضخمة والاعتماد على مساعدات أمريكية مشروطة، فى وقت تحتاج فيه خطط التنمية الإفريقية المستدامة إلى 2500 مليار دولار لا تستطيع الحكومات توفير القدر الأكبر منها من مواردها المحلية. ويظهر بوضوح أن إعادة النظر فى المساعدات الأمريكية يهدف أساسا إلى تحقيق مصالح أمريكية أكبر وليس توفير دعم ملموس يغنى عن المساعدات الصينية، وجاءت عبارات مثل ضمان الاستغلال الأمثل لأموال دافع الضرائب الأمريكي، وتعزيز مصالح أمريكا وصادراتها للدول الإفريقية، وتوفير مزيد من فرص العمل للأمريكيين بمثابة قيود على تقديم المساعدات بينما لا تضع الصين قيودا على مساعداتها تقريبا. كما أن حديث بولتون عن أن الهدف هو جعل الدول الإفريقية تعتمد على نفسها أمر تطبقه واشنطن منذ سنوات ولا ترحب به حكومات إفريقية عديدة لأنه يقيد حركتها فى استخدام المساعدات وفقا لحاجات شعوبها الملحة. يضاف إلى ذلك أن وقف المساعدات لبعثات الأممالمتحدة فى دول إفريقيا المضطربة لمجرد ارتكاب بعض أفرادها جرائم جنسية لابد ستعتبره دول إفريقية تقويضًا لجهودها للقضاء على التمرد والصراعات العرقية التى تهدد سلامة أراضيها. أما محاصرة وملاحقة الجماعات الإرهابية فتقوم به واشنطن بالفعل فى الصومال وليبيا والنيجر وإن كانت لا تنفذه بالقدر المطلوب فى نيجيريا لفرضها قيودا على تزويد جيشها بالأسلحة والمعدات اللازمة لدحر بوكوحرام بسبب اتهام جنود وأفراد أمن نيجيريين بانتهاك حقوق الإنسان. فإذا أتينا للمقارنة بين ما تقدمه الولاياتالمتحدة وما تقدمه الصين للدول الإفريقية بشروط أو بدونها أو بتيسيرات نجد الكفة تميل جهة الصين بوضوح، فبينما تشترط واشنطن لتقديم المساعدة أن تحترم الحكومات الإفريقية حقوق الإنسان وتنتهج نظام حكم ديمقراطى وتكافح الفساد وتوقف الصراعات العرقية والدينية وتتَّبع نظام السوق الحرة...إلخ نجد بكين تقدم مساعداتها بلا شروط سوى ما يضمن استرداد قروضها التى قدمتها بشروط ميسرة وفترات سماح طويلة وكذلك عائدات استثماراتها فى صورة مواد خام تحتاجها مصانعها أو نقدا. كما تصدر الصين للأسواق الإفريقية السلع التى بمقدور المواطن الفقير فى الغالب الأعم شراءها وتستورد بما يعادل قيمتها تقريبا منتجات تسهل على الحكومات تسديد ثمن وارداتها وتمكنها من تصريف قدر كبير من منتجات دولها على العكس من السلع الأمريكية مرتفعة الثمن والمنافسة الشرسة التى تواجهها الصادرات الإفريقية فى السوق الأمريكية لافتقارها مستوى الجودة المطلوب هناك باستثناء صادرات بعض الدول الإفريقية التى تستفيد من خفض التعريفة الجمركية أو إلغائها أحيانا مقابل الاستجابة لشروط محددة. لذلك نجد أن حجم التجارة الأمريكية مع إفريقيا بلغ 53 مليار دولار فقط فى 2016. بينما بلغ حجم تجارة الصين مع القارة السمراء 170 مليارا، ورغم أن حجم الاستثمارات الأمريكية مازال أعلى من الصينية بقيمة 57 مليار دولار مقابل 40 مليارا، إلاَّ أن الاستثمارات الأمريكية تتركز فى البترول والغاز والمعادن النفيسة، كما ان هذه الإستراتيجية لا يشعر المواطن الإفريقى البسيط بدور لها فى تحسين أحواله المعيشية اليومية على العكس من الاستثمارات الصينية التى تتجه لشق وتعبيد الطرق وإنشاء السكك الحديدية والكبارى وتوفير الكهرباء ومياه الشرب النقية وتطوير القطاعين الزراعى والصناعى بأرخص التكاليف. كما أن القروض الصينية الميسرة للدول الإفريقية بين عامى 2002 و2016 بلغت 125 مليار دولار وتعهدت بتقديم 60 مليار دولار أخرى منها 15 مليارا منحًا لا تُرد خلال السنوات الثلاث المقبلة وزادت مبيعات الأسلحة الصينية لإفريقيا بنسبة 55% متخطيةً حصة أمريكا فى سوق السلاح الإفريقية. لكل ذلك يبدو أنه لمواجهة النفوذ الصينى ليس فى يد إدارة ترامب، الذى لا ينسى الأفارقة وصفه لدولهم المصدِّرة للهجرة غير الشرعية بالحثالة والأوكار القذرة، سوى تدبير انقلابات ضد نظم الحكم التى لا تتجاوب معها واستخدام نفوذها لدى المؤسسات المالية الدولية والجهات المانحة لقطع مساعداتها عنها، والامتناع عن مساعدتها ضد جماعات الإرهاب. وإذا فعلت ذلك واستطاعت الصين تعويض الحكومات الإفريقية عن تلك المساعدات فستكون واشنطن الخاسر الأكبر وربما تخرج من المنافسة بالكامل. لمزيد من مقالات عطية عيسوى