أطلقت الصين يديها فى إفريقيا وأمريكا اللاتينية كى تستأثر بأكبر حصة من المواد الخام لضمان نموها الاقتصادى المتصاعد، وتضمن فى نفس الوقت أسواقا جديدة لمنتجاتها، وهو ما جعلها عرضة لاتهامات متكررة بأنها تسعى إلى استنزاف الموارد الطبيعية بدول القارتين على غرار ما فعلته القوى الأوروبية إبان الحقبة الاستعمارية فى أواخر القرن التاسع عشر. وهذه الاتهامات تتزايد فى ظل تنامى التبادلات الاقتصادية بين الصين ودول القارتين. فعلى الصعيد الإفريقى أصبحت بكين أكبر شريك تجارى لإفريقيا للعام الخامس على التوالى بعدما تضاعف حجم التجارة البينية بين الصين والدول الإفريقية بما يزيد على 10 أضعاف خلال العقد الماضى بحيث ارتفع من 18.5 مليار دولار فى عام 2003 إلى 198.6 مليار دولار فى عام 2012، وتجاوز أكثر من 200 مليار دولار فى عام 2013 ، وخلال الفترة من يناير إلى سبتمبر من العام الماضى تجاوز التبادل التجارى بينهما 156 مليار دولار. ومن المتوقع أن يصل إلى نحو 300 مليار دولار بنهاية العام الجارى. وفى المقابل تعتبر إفريقيا ثاني أكبر سوق للاستثمارات الخارجية الصينية ووجهة استثمارية واعدة للشركات الصينية والتى استحوذت على تعاقدات داخل دول القارة بقيمة 43 مليار دولار، بينما تبلغ الاستثمارات الصينية المباشرة نحو 2.3 مليار دولار. وتبلغ المساعدات الصينية الموجهة لدول إفريقيا نحو 75 مليار دولار. وتؤكد بكين أن أكثر من نصف مساعداتها الخارجية يذهب للدول الإفريقية ودون أي شروط. فى الأسبوع الماضى قام وزير الخارجية الصينى وانج يى بجولة شملت خمس دول فى إفريقيا وأكد خلالها إن الصين لن تسلك طريق «المستعمرين الغربيين» فى إفريقيا وذلك رداً على انتقادات بأن شغف بلاده للموارد أدى إلى انتهاج سياسات منحازة ومشروعات ضارة بالبيئة. وكان بعض الزعماء الأفارقة قد وصف تكالب بكين على إفريقيا على أنه الاستعمار الجديد. ويخشى هؤلاء الزعماء ألا تؤدى المشروعات إلى فائدة تذكر للسكان المحليين خاصة مع استيراد المواد والعمالة من الصين. والصين من جانبها تنظر إلى إفريقيا على أنها عنصر مركزى لنمو اقتصاد الصين وتطويره على المدى البعيد. وقد انطلقت علاقات التعاون الاقتصادى القائم على المنفعة المتبادلة بين الجانبين بداية من1978, وتم توثيق التعاون بإنشاء منتدى التعاون الصينى الإفريقى FOCAC والذى يعد الإطار الرئيسى للتشاور والحوار بين الصين والقارة الإفريقية، فى أكتوبر عام 2000 . ويضم المنتدى فى عضويته 49 دولة افريقية. ومن خلال هذا المنتدى واصلت الصين باستمرارتقديم مساعداتها التنموية إلى القارة الإفريقية فضلا عن توسيع استثماراتها فى مشروعات البنية الأساسية والطاقة والزراعة. وخلال الفترة من عام 2009 إلى عام 2012، قدمت الصين 10 مليارات دولار فى صورة قروض ميسرة لإفريقيا. وخلال زيارته لإفريقيا فى مارس 2013، ضاعف الرئيس الصينى شى جين بينج هذه القيمة إلى 20 مليار دولار أمريكى بداية من عام 2013 وحتى 2015. وبحلول بحلول عام 2025، ستصل قيمة ما قدمته الصين لإفريقيا إلى 1 تريليون دولار أمريكى بما فى ذلك الاستثمار المباشر والقروض الميسرة والقروض التجارية. والملاحظ أن الصين لا تسعى لاستخدام المساعدات للتأثير على السياسات الداخلية للدول الإفريقية أو إملاء شروط وسياسات بعينها. ولكن من ناحية أخرى، لا تساعد الصين إفريقيا مقابل لا شيء. فالمشروعات الصينية تخلق فرصا للولوج إلى الموارد الطبيعية لإفريقيا والأسواق المحلية، وفرصا هائلة للشركات الصينية إلى جانب فرص عمل للعمال الصينيين. وعلى المستوى السياسى تأمل الصين. فى أن تدعم هذه الدول سياسية «الصين واحدة «، إلى جانب دعمها فى المحافل الدولية. ويبدو أن الصين تطبق نفس الدبلوماسية الناعمة مع دول أمريكا اللاتينية فقد تعهد الرئيس الصينى خلال اللقاء الوزارى الأول لمنتدى التعاون بين الصين ومجموعة دول أمريكا اللاتينية والكاريبى «سيلاك» الذى استضافته بكين الأسبوع الماضى بمشاركة 33 دولة برفع حجم التجارة البينية بين الصين ومجموعة دول أمريكا اللاتينية والكاريبى «سيلاك» إلى 500 مليار دولار خلال العقد القادم وزيادة حجم الاستثمار الصينى المباشر بها إلى 250 مليار دولار. وتأسست مجموعة «سيلاك» التى تضم 33 دولة بمجموع سكان يصل إلى 600 مليون نسمة فى عام 2011 فى العاصمة الفنزويلية كاراكاس، حيث تضم جميع دول أمريكا الجنوبية وبعض الدول الكاريبية إضافة إلى المكسيك، ويشير المحللون إلى أنها ستكون ذراع الصين للولوج إلى دول قارة أمريكا اللاتينية فضلاً عن كونها إدارة إقليمية لخفض النفوذ الأمريكى فى الشئون السياسية والاقتصادية بدولها. وكان حجم التجارة بين بكين ودول أمريكا اللاتينية قد ارتفع فى غضون سنوات قليلة من 10 مليارات دولار فى عام 2000 إلى 257مليارا فى عام 2013، مدفوعاً بالطلب الصينى المتزايد على الموارد الطبيعية مثل المعادن والبترول والمنتجات الزراعية، فى مقابل السلع الصينية ومنها المنسوجات والأدوات المنزلية والهواتف والسيارات التى تنتشر فى كل دول القارة. كما تقدر استثمارات الصين داخل دول القارة بنحو 86 مليار دولار أى ما يمثل 13٪ من إجمالى الاستثمارات الصينية المباشرة فى الخارج، لتصبح الصين ثاني أكبر مستثمر بها بعد الولاياتالمتحدة. . وخلال الفترة من يناير إلى نوفمبر 2014 بلغ حجم التجارة بين الصين ودول مجموعة «سيلاك» ما يزيد عن 241.93 مليار دولار بزيادة قدرها 1.3 ٪ مقارنة بنفس الفترة فى عام 2013 ، وفى الربع الأول من عام 2014 ضخت الصين استثمارات بقيمة 9.06 مليار دولار داخل دول القارة. وتعتبر قطاعات الطاقة والموارد الطبيعية والبنى التحتية والتمويل والزراعة والصناعة والتكنولوجيا المتقدمة هى أهم مجالات التعاون بين بكين ودول المجموعة التى تمثل مجتمعة 1/8 الاقتصاد العالمي، وتحوى نحو 25 ٪ من موارد الطاقة على المستوى العالمي. تعتمد بكين عدة آليات من أجل تعزيز علاقاتها مع دول أمريكا اللاتينية من بينها الدخول فى اتفاقيات تجارية مع دولها بلغ مجموعها ما يزيد 150 اتفاقية فضلاً عن الانضمام للمنظمات العاملة بها ومنها بنك التنمية للبلدان الأمريكية (IDB) ، وبذلك تمكنت الصين من ضح استثماراتها فى مشروعات البنية الأساسية العملاقة بالقارة ومنظمة الدول الأمريكية (OAS) ، كما دعمت الاتحاد البوليفى للأمريكتين (ALBA)، وقدمت ما يزيد على 50 مليار دولار فى صورة قروض لأهم دولتين فى الاتحاد وهما الأكوادوروفنزويلا. كما تدعم الصين وبقوة منتدى التعاون بين الصين ومجموعة دول أمريكا اللاتينية والكاريبى «سيلاك». انطلقت الاستثمارات الصينية بدول القارة فى التسعينيات من القرن الماضى مرتكزة فى البداية على قطاعات الطاقة والموادر الطبيعية ثم تحولت فى وقت لاحق إلى قطاعات السيارات والاتصالات. وركزت فى البداية على العلاقات الثنائية لكنها تطورت فى الوقت الراهن إلى علاقات التعاون المتعددة، ففى مارس من عام 2012، أعلنت بكين بالتعاون مع بنك التنمية للبلدان الأمريكية IDB عن خطة لاستثمار 1 مليار دولار أمريكى فى أسواق أمريكا اللاتينية. وبحسب البنك نفسه قدمت البنوك الصينية المملوكة للدولة قروضاً بقيمة 75 مليار دولار خلال الفترة ما بين 2005 إلى 2010. وبات واضحاً أن الكثير من الدول اللاتينية تفضل الدخول فى تحالف استراتيجى وسياسى مع الصين من أجل الحصول على الدعم المالى بدلا من استجداء المساعدة من صندوق النقد الدولى (IMF). وبحسب أحد الباحثين فإن الصين تستغل هذه الفجوة من أجل نسج شراكات طويلة المدي. فقد قدمت الصين 2.3 مليار دولار فى صورة قروض إلى الأرجنتين منذ أكتوبر الماضي، ووفرت 47 مليارا لفنزويلا منذ عام 2007، وقدمت 5.3 مليار دولار قروضاً الى الاكوادور. وهذا ما يطلق عليه يانج جيانج، الأستاذ بكلية كوبنهاهن للاقتصاد، «الدبلوماسية النقدية للصين»، وهى استراتيجية مدعومة بما يقرب من أربعة مليارات دولار فى الاحتياطيات الدولية التى يديرها البنك المركزى الصيني. ولا تربط بكين منح المساعدات بمستوى العلاقات التجارية، فعلى سبيل المثال شكلت التجارة مع فنزويلا 8٪ فقط من إجمالى التجارة بين الصين ودول أمريكا اللاتينية بين عامى 2005 و 2013، ومع ذلك، حصلت على 50٪من إجالمى القروض المقدمة لدول المنطقة. بينما على النقيض حصلت المكسيك، الشريك التجارى الثانى للصين فى أمريكا اللاتينية، على 2.4 مليار دولار فقط، ومن أجل تعزيز نفوذها العالمى شرعت بكين فى استخدام عملتها المحلية فى المعاملات التجارية الدولية بحيث بات اليوان الرينمنبى سابع أكثر العملات استخدماً فى المدفوعات الدولية. وإلى جانب قطاع الطاقة الذى يستحوذ على الشريحة الكبرى فى الاستثمارات الصينية تولى بكين اهتماماً بالاستثمار فى القطاع الزراعى من أجل توفير المنتجات الغذائية لسكانها وتعد الأرجنين من أهم موردى المنتجات الغذائية للصين. ومنذ عام 2004 تحولت الصين إلى شريك استراتيجى للأرجنتين وفى عام 2013 وقعت الصينوالأرجنتين أربع اتفاقيات جديدة تغطى إلى جانب قطاعات الزراعة والموارد قطاع العلوم والتكنولوجيا. وبنفس النهج تعتبر فنزويلا شريكاً استراتيجياً للصين ويتركز التعاون بينهما فى قطاعى الزراعة والطاقة كما تعد فنزويلا أكبر مستفيد من الاستثمارات الصينية فى البنية التحتية بين دول القارة. وتتمثل قوة الصين فى سياستها الناعمة التى تركز على افتتاح مراكز كونفوشيوس لنشر اللغة والثقافة الصينية وتقديم حوافز مادية كالقروض الموجهة للبنية التحتية من أجل اكتساب قلوب وعقول مواطنى دول القارة. وأخيراً كشف الرئيس الصينى شى جين بينج عن نهج جديد فى السياسة الخارجية للصين وهو «الحلم الصيني»، الذى قال إنه يسعى من خلاله إلى تحقيق الازدهار الاقتصادى والتعاون والتنمية والمصالح المشتركة والسلام. ومن خلال «الحلم الصيني» تسعى بكين إلى تعزيز شعبيتها كشريك يمكن الاعتماد عليه لتحقيق التقدم والتنمية المشتركة. كما يوجد تعاون وثيق بين بكين ودول أمريكا اللاتينية فى مجال تكنولوجيا الفضاء والأقمار الصناعية ولا سيما مع البرزايل وفنزويلا. وتسعى دول أمريكا اللاتينية من خلال تطوير علاقاتها مع الصين إلى تقليص اعتمادها على الولاياتالمتحدة وشركائها التقليديين وبناء شراكات متعددة تكفل لها استقلالها الوطني، وتضمن فى الوقت ذاته نقل التكنولوجيا والدعم المالى لمشروعات البنى التحتية والتنموية بها. أما الصين فتسعى إلى بناء شراكات مع دول أمريكا اللاتينية الصاعدة على غرار ما تفعله الصين مع مختلف دول العالم من أجل شراء الشعبية والنفوذ إلى جانب المصالح الاقتصادية. ولكن الشركات والاستثمارات الصينية تواجه فى الوقت الراهن منافسة شرسة من جانب الشركات الأمريكية العائدة بقوة إلى المنطقة وذلك بعدما أدركت الولاياتالمتحدة أنها فقدت واحدة من أهم مناطق النفوذ لديها. وكانت واشنطن قد قلصت دورها فى دول أمريكا اللاتينية كى تتفرغ لحربها المزعومة ضد الإرهاب فى أعقاب هجمات الحادى عشر من سبتمبر، وهو ما فتح الطريق أمام دخول الصين. ولكن بات واضحاً أن بوصلة السياسة الأمريكية ستتجه فى العام الجارى نحو أمريكا اللاتينية من أجل تصحيح أخطاء الماضى ولا سيما بعدما أعلنت واشنطن إنهاء حصارها لكوبا واستئناف العلاقات بين واشنطن وهافانا بعد 53 عاماً من القطيعة.