يقفزُ القلم عبر مِنصة الواقع إلى أُفق الكتابة، حيث تتجاوز الأحرف كل معوقات السير، وتكسر كل إشارات المرور إلى وِجهاتٍ مقصودة، وتُعاند أى كَبحٍ لزمام الطرح المنفلت من قيود التبعية. ليُحيلنا القلمُ إلى رفيق قديمٍ قِدَمَ وجود الوطن، عتيق بقدر تعتق طينة نيل يسرى خيرًا وناس، معجون بحوادث آلاف السنين وشخوص أبدعت إيمانًا وفنًا وسِلْمًا وحربًا وإدارة وعمارة، يُجسِدُه القلم فى (أَيُّوبْ المَصْرِّي)، انتخاباً من صناديق الخيال الحالم بِوَطَنٍ يُبْعثُ على سواعد الرجال. لايغادر (الفايش) جيب جلباب (أَيُّوب المصْرِّي)، رُبما حمله قديماً حين كان يجرُ أحجار الأهرام إلى موقعها فى البناء، وقد يكون صاحبهُ وهو ينحت على جدران المعابد فنونًا تقاوم أسباب الفناء. كان (الفايش) طعامًا يدرب (أَيُّوبْ) على الجلَد فى مواجهة كل عوامل الاقتلاع عن الجذور، ويُعينه على التمسك بالإيمان الخالص كلما حمل إليه الغزاة أديان الكُرهِ والإبادة والدمار، ويَمُدُه بمَا يُقيم أوده حتى لا ينكَسرَ جوعًا فى أزمنة المُقايضات والمفاوضات والأجندات، يقضم (أَيُّوبْ المَصري) خُبزَهُ كلما قرص الجوع أمعاءه بفعل الاستبداد أو الفساد أو الاحتلال، ويتطلع إلى سماء مصر الرحبة بيقين فى فرج مهما تقسُ أسباب انتظاره، يسأل نفسه ويجيبها لسانُ خبْزِه (لِسَّاكْ صَحيح عَايِشْ؟- سِيفْ الحُمُولْ طايِشْ- والظهر يَامَا شَالْ-كِيفْ تُقْرُشْ الفَايِشْ). بينما يُصارِع (أَيُّوبْ المَصْري) قضمات خُبْزه، يتطَلَعُ من مِنصتِه المًطلِة على الواقع الإنساني، يُشاهد مؤتمرات أممية عنوانها (الحرب على الإرهاب)، يسمع شعارات براقة عن خطورة الإرهاب على الإنسانية، وتوحش أدوات الإرهابيين، وتنامى أسباب دعم الإرهاب، فى صدارة المشهد أقطاب العالم الجديد، قياصرة جُدُدْ من نسل أسلاف لهم مروا على ذاكرة (أَيُّوبْ المَصْرِّي)، تتابعت آثار مطامعهم على مدى التاريخ، جيوشًا تغزو وتبيد وتغتصب، ومعظمهم كانوا حتى سنوات قريبة حاضرين بالاحتلال المباشر فى مشهد أوطاننا، ولهم فى جوارنا زرعاتٍ ترعاها أياديهم حتى يومنا هذا، ولم يغادروها إلا بعد أن اطمأنوا لأن ما زرعوا قد أثمر دولةً صهيونية وتنظيمات دينية إرهابية. فى شتاء نوفمبر 2018 ومن منصته المطلة على واقع إنسانية مُفْزِعٍ، يرقبُ (أَيُّوبْ المَصْري) اجتماعًا لصياغة بيان فى قلب العاصمة البريطانية (لندن)، على رأس الطاولة (إبراهيم منير) نائب مرشد تنظيم الإخوان، وحوله فريق الدعم يتقدمهم أمين عام التنظيم محمود حسين، يعتقد (أَيُّوبْ المَصْري) أن شعارات الحرب على الإرهاب استحالت تهديدا مباشرا يستوجب إصدار التنظيم الدولى للإخوان بيانا، يُعانده (الفايش) المتحجر لكنه ينجح فى قضمه، محدثًا نفسهُ (يبدو أن الإدارة البريطانية الحالية قد تنبهت لخطورة التنظيم الإخوانى على المصير الإنساني، فقررت اتخاذ تدابير عاجلة لمواجهة التنظيم الذى يُسيطر على تشكيل وعى مسلمى إنجلترا وأوروبا). يَتذكر (أَيُّوبْ المَصْري) كيف رعت سلطة الاحتلال البريطانى نشأة تنظيم الإخوان قبل تسعة عقود، وكيف تحولت عاصمة المملكة الإنجليزية إلى حاضنة لبناء التنظيم الدولى وإدارته منذ رعت إقامة قياداته وفى مقدمتهم القيادى إبراهيم منير، وكيف سهلت الإدارة البريطانية لقيادات التنظيم الإقامة والاستثمار والسيطرة على منافذ الدعوة الإسلامية فى أرجاء المملكة، وكيف دعمت السلطات الإنجليزية قيادات التنظيم التى هربت من مصر عقب ثورة الشعب على حكم الإخوان، وكيف ترعى أجهزة الدولة البريطانية حواضن البعث الجديد للتنظيم الإخوانى حالياً. جميعها مواقف لا تفارق وعى (أَيُّوبْ المَصْري) بالخطيئة الإنجليزية فى حق الإنسانية برعايتها للإخوان، لكن الاجتماع العاجل والحساس الذى يشهد صياغة بيان إخوانى فى مكتب لندن يُبَشِّر (أَيُّوبْ) باقتراب موعد مراجعة الإدارة البريطانية لضميرها ورفع غطائها عن الإخوان. تهاجم قطعة يابسة مددبة من الفايش لثة (أَيُّوبْ المَصْري) يتأوه، بينما تخرج أول أسطر بيان الإخوان من الطابعة ويطالعه، ليتبدد ما خلفه وجع الفايش فى لثته العجوز، لم يكن ما يسطرهُ قادة التنظيم الدولى بياناً بل كلمة سوف يُلقيها نائب المرشد فى إحدى قاعات مجلس العموم البريطانى بتاريخ 4 ديسمبر 2018! تلدغ كلَ عقارب اليقظة وعى (أَيُّوبْ المَصْرِّي)، توقظهُ من أوهام المراجعات الإنجليزية والاتساق مع الضمير الإنساني، إن نائب المرشد ومعه أربعةُ من وجوه البعث الجديد للتنظيم يتحدثون داخل (مجلس العموم البريطاني) للمرة الثانية حول (مطابقة أفكار الإخوان للقيم البريطانية)!، هكذا يُطوِّر السيناريو الإنجليزى من تتابع أحداث مسلسله القديم بنظرية جديدة فى (مواجهة الإرهاب) عبر رعاية حاضنته الأساسية (الإخوان). ويتذكر (أَيُّوبْ المَصْري) مشهد الرائع الراحل سعيد صالح فى فيلم (بلية ودماغة العالية) حين كان يلتهم الحلويات رغم مرضه، مؤكداً أن الطبيب قد نصحه بالهجوم على السكر قبل أن يهجم عليه، وفى ضوء هذه القاعدة يُصبح (مجلس العموم البريطاني) قد قرر أن يفتح قاعاته للإخوان قبل أن تدخلها قواعدهم فاتحين ومُمَكَّنين!. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى