لم يعد منهج واحد هو القادر على إعطاء مصداقية للنص في القراءة المعاصرة، وإنما تعدد المداخل ربما سيكون هو الحل لأزمة النقد العربي الحالية، ليس فقط بشأن النصوص الأدبية المنتجة في الألفية الثالثة، وإنما أيضا للنصوص المنتجة في القرن الماضي، لأن التحولات العالمية التي طرأت على الأدب ومفهوم الأدبية ليست وليدة اليوم فقط، وإنما بداياتها تعود للنصف الثاني من القرن الماضي، وإن كان الانفتاح المعرفي قد بدأ في الثمانينات واستمر في التوسع والتوغل حتى تجلياته التي نراها الآن، ومن جهة أخرى لأن القراءة النقدية هي إعادة إنتاج للنص في سياق المتداول المعاصر، فلا ننسى أن كبار الكتاب العالميين تمت قراءتهم بعد عشرات السنين من وفاتهم، ومنهم شكسبير نفسه. ...................................... من هنا يمكن الدخول إلى عالم نجيب محفوظ الإبداعي، ومشروعه الفكري الذي لم تعد تصلح معه المداخل التقليدية في تطبيق منهج نقدي عليه، ولا القراءات التقليدية التي تتوسل مجرد لغة النص وشخصياته وأحداثه وبنائه الفني ومقولاته السردية، وغيرها من أدوات النقد المتداولة، وإنما سيحتاج إبداعه إلى إعادة قراءة، والأهم إعادة توسيع أفق واتساع رؤية ومرونة في التحرر من تقليدية المداخل. إن القراءة الإجمالية لحجم الدراسات التي تناولت محفوظ عموما تكشف عن تحكم بعض المسارات التي تقتضي معاودة النظر فيها، على الأقل بعد انفتاح الرؤى النقدية على النحو الذي لم تعد المؤسسة الأكاديمية تتحكم في مساراته بعد أن انغلقت على ذاتها وفقدت تواصلها مع الوعي العام والتوجهات العامة السائدة في المجتمع، وبعد مرور ما يزيد عن عشر سنوات من رحيل محفوظ ، يمكن قراءة المنجز النقدي الذي دار حوله للخروج بملاحظات عامة، ومنها: أولا: أن الدرس النقدي والأدبي عموما لم يستطع أن يقف حتى الآن على أعتاب أدبه ليقدم ما يليق به وبمكانته كما يحدث مع الكتاب الذين يرقى محفوظ إلى مصافهم، إن لم يكن قد سبق بعضهم، أمثال: شكسبير، وتشيكوف، وبابلو نيرودا، وصامويل بيكيت، وماركيز، وماريو بارغاس يوسا، وغيرهم ممن حصل بعضهم على نوبل وبعضهم لم يحصل عليها، غير أن الدرس الأدبي يهتم بهم عالميا، وشعوبهم تعرف جيدا قدرهم ومكانتهم، سواء في المؤسسات التعليمية أو الثقافية أو الإعلامية أوالسياحية. وثانيا: أن كل الدراسات اعتمدت التقسيم التاريخي لتسلسل أعماله وتقسيمها إلى مراحل: تاريخية واجتماعية وفلسفية، أو بمسمى آخر: رومانسية، وواقعية، وما بعد الواقعية، ويمثل المرحلة الأولي الأعمال من «عبث الأقدار» حتى «كفاح طيبة»، والثانية من «القاهرة الجديدة» عام 1945م، حتى «الثلاثية» 1956-1958م، وتبدأ الثالثة ب»اللص والكلاب»1960م، حتى اكتمال مشروعه ورحيله. لقد اعتمد الدارسون هذا التقسيم منذ الكتابات الأولى عن نجيب محفوظ، مع سيد قطب بدءا من منتصف الأربعينات من القرن الماضي في مجلة الرسالة وغيرها، مع مقالته عن رواية «كفاح طيبة» عام 1944م كما يشير رجاء النقاش في كثير من كتاباته، ثم تأتي كتابة الأب جاك جومييه في الغرب أواخر الخمسينات عن الثلاثية، والتي ترجمها نظمي لوقا، وهي تنطلق أيضا من اعتماد قراءة أعمال محفوظ في إطار التاريخي، ثم الواقعي، وهو ما اعتمده كل دارسي نجيب البارزين من بعد، أمثال: أنور المعداوي، ولويس عوض، ومحمود أمين العالم، وإبراهيم فتحي، ورجاء عيد، وغالي شكري، وعبدالمحسن طه بدر، وسيزا قاسم، وفاطمة موسى، ونبيل راغب، وإن كان القليل قد تحرر نسبيا من هذه النظرة. وثالثا: ذلك الاهتمام الذي حظيت به الأعمال الروائية دون إعطاء المزيد من الدرس للأعمال القصصية القصيرة، التي يبدو أنه لم يقرأها كثيرون، ولو قرأوها لتحرروا من أسر النظرة التقليدية له، ولوجدوا الكثير من المداخل لقراءة أعماله السردية، ولعل قراءة مسحية سريعة للدراسات حول منجزه تكشف الفوارق بين عدد الدراسات التي تناولت أعماله الروائية، والقصصية، والمسرحية، وأخيرا التي تناولت الأحلام، والمقالات، ونصوص السيناريو التي كتبها، وهو ما سيتضح معه القلة التي تصل إلى حد الندرة في دراسة كل أعماله غير الروائية. أما رابع هذه المسارات التي تقتضي إعادة النظر: فهو محاولة رصد ملامح الفنون السبعة في أدب نجيب محفوظ، وبخاصة مع معايشته هو نفسه لأعماله الإبداعية في تحولها إلى سينما (الفن السابع الذي جمع كل هذه الفنون) ومسرح، ومع اطلاعه على تاريخ الفنون واشتباكه معها عبر نصوصه الإبداعية. هذه الفنون صنفها الإغريق قديما إلى فنون ستة، هي على الترتيب: العمارة والموسيقى والرسم والنحت والشعر والرقص، ثم طورها وأضاف إليها «إيتيان سوريو» ليكون ترتيبها: النحت والعمارة، والرسم والزخرفة، والتلوين التمثيلي والصرف، والموسيقى، والإيماء والرقص، والأدب والشعر، والسينما والإضاءة. وهي فنون جمعتها السينما كاملة في أفلام، أو اعتمدت على بعضها في أفلام أخرى، وهو ما يمكن رصد حضوره بالكيفية ذاتها في كثير من أعمال نجيب محفوظ السردية، لعلنا بذلك نفتح بوابات جديدة بعضها قد ينفتح، وبعضها قد لا يجد استجابة على مستوى التلقي، لكنها في نهاية الأمر تحاول التأسيس للتعددية وهدم اليقينية المطلقة ووجهة النظر الواحدة.