فى مواجهة الفوضى والشغب، حاول الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون احتواء المتظاهرين وامتصاص غضبهم دون التخلى عن برنامجه للإصلاح البيئى والاقتصادى ودون الصدام معهم، فخاطب عقولهم قائلا : «إننى استمع وأتفهم أسباب المظاهرات ودواعيها»، كما غازل عواطفهم ونعتهم ب«مواطنين يعبرون عن آلام يشعر هو أيضا بها».وللحيلولة دون تفاقم الأوضاع، طالبهم بالعمل المشترك معه ومع أعضاء حكومته للخروج من الأزمة الحالية من خلال طرح حلول بديلة ومرضية لكافة الأطراف. وفى محاولة لتهدئة الشارع دون التخلى عن سياساته الإصلاحية، أعلن ماكرون تبنى آلية جديدة تسمح بضرائب «أكثر ذكاء وليونة»، بحيث تتم مراجعة قيمتها كل 3 أشهر للتوافق مع أسعار البترول العالمية، مؤكدا أنه يجب أن يشارك الجميع فى وضع هذه الآلية، بمن فى ذلك أصحاب «السترات الصفراء». وفى إطار سعيه للإصلاح، أنشأ ماكرون «مجلسا أعلى للمناخ»، معلنا عن خططه لإغلاق جميع مناجم الفحم الحجرى بحلول عام 2020 بهدف تقليص استخدام الغاز والبترول والفحم، فى إطار استراتيجية تهدف إلى استخدام الغاز الحيوى والطاقة المتجددة كالرياح والشمس والطاقة الهيدرولوجية كبديل لمصادر الطاقة التقليدية التى تتسبب فى انبعاثات غازات كربونية غير صديقة للبيئة. وبالتزامن مع تهديده ووعيده للمخربين، أبدى ماكرون إصرارا عميقا على المضى قدما فى تنفيذ خريطة الإصلاحات السياسية والاقتصادية والبيئية المطلوب إتمامها مهما كلف الأمر، مضيفا «لا أهدف إلى البقاء فى السلطة لفترة طويلة بقدر ما أريد تحقيق أكبر قدر من الإنجازات، ولذا فإننى لن أستسلم للأمر الواقع وللصعوبات والانتقادات».ولكن، رغم كل ذلك، لم تفلح سياسة العصا والجزرة التى انتهجها ماكرون فى وضع حد للمظاهرات وما صاحبها من تخريب.وفى النهاية، يرى البعض أن سياسات ماكرون لم تثبت جدواها حتى الآن، وأن شهر العسل بينه وبين مواطنى الطبقتين المتوسطة والفقيرة انتهي، وأن الأيام القادمة سيشهد المزيد من الاحتجاجات ضد سياساته.وفى الواقع، يعد الحكم المبكر على أدائه إجحافا واضحا، خاصة وأنه فى العام الثانى فقط من فترة الحكم الممتدة ل 5 سنوات، خاصة إذا لم نستبعد شبهة المؤامرات الداخلية أو الخارجية. فأما الداخلية، فتتمثل فى اليمين المتطرف الذى يزكى نيران غضب الشارع ضده لأنه أكبر المستفيدين من تراجع شعبيته لاستغلالها لصالح مرشحيه فى انتخابات الرئاسة المقبلة 2021، وهو ما دفع رئيس الوزراء الفرنسى إلى اتهامهم صراحة بأنهم وراء هذه الاحتجاجات وأحد العناصر المحركة لها. وأما الخارجية، فلا يخفى على أحد ما ذهب إليه العديد من المحللين بشأن الاشتباه فى أن إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب وأجهزته ربما تكون وراء هذه الاحتجاجات عبر إثارة ما يعرف ب«الثورات الملونة» فى أوروبا الآن على غرار ما فعلته سابقا فى الشرق الأوسط عام 2011، أو أنها على الأقل أحد الأسباب الدافعة لاستمرارها وإطالة أمدها بهدف استخدامها كعصا تأديب لماكرون الذى تجرأ وتحدث عن تكوين جيش أوروبى لمجابهة الآخرين، بمن فيهم الأمريكيون، فضلا عن مواقف ماكرون المناهضة دوما لسياسات ترامب أوروبيا وعالميا، لدرجة أن الأول بات صداعا مزمنا فى رأس الأخير.