صحيح أن كل سطو على الحقوق يحتاج إلى تغطية بأكاذيب، وصحيح أيضًا أن الإنسان يواجه فى ممارسة حياته أنواعًا من الحجب، والتعمية، والتضليل؛ بل يواجه كذلك خداع النفس بأن يحلم بنفسه، طمسًا لوجوده الحقيقي، لكن الصحيح أيضًا أنه ليس ثمة نجاة من كل تلك الالتباسات إلا بالوصول إلى الحقيقة، وهو ما لا يتأتى إلا باقتدار الإنسان على ممارسة التفكير والفهم، لكى تبرز الحقيقة؛ إذ إعمال العقل يحقق الفهم عندما يفك تكبيل الوعي، ليكشف مساحة المجهول ببلوغ المعرفة، التى حارسها الوحيد هو العقل؛ إذ تنهى المعرفة بحضورها كل أشكال التضليل والحجب، ويتعافى الإنسان من أوهامه الذاتية، انطلاقًا من أن المعرفى هو ارتحال أساسه الفكر كوعى مكتسب من خلال الخبرة والتعلم، أما توأم المعرفى فهو ما يسمى الاعتقادي، الذى يعتمد فى بنائه الأساسى على القناعة الذاتية الخالصة للفرد، وذلك ما يخالف توجه التيار السياسى والفلسفى الذى يمنح الأولوية المنطقية للحمولة المعرفية التى يتمنطق بها الاعتقادي، وثمة قصة تستحضر التصورات والاستيهامات التى أنتجتها أحداث الاعتداء على ممتلكات الغير، عندما تغيب إمكانية المعرفة، ويغدو الوهم مسيطرًا، فقد طلب صاحب العمل من الرجل الذى يعمل عنده، أن يحمل السلة المملوءة بحبات التين التى أعدها ومعها الورقة المرفقة، ويسلمهما معًا إلى الشخص الذى حدد اسمه وعنوانه، وفى الطريق انفتحت أمام حامل السلة إغراءات الاستباحة لما يحمله؛ إذ الاستباحة لا تعترف بالحدود المغلقة، المحروسة بالحقوق؛ بل إنها تمارس إرغامها واجتياحها، تغذيها أوهامها؛ لذا التهم حامل السلة الجزء الأكبر من حبات التين، عندما تسلم الشخص السلة الموجهة إليه، ثم اطلع على الرسالة المرفقة، وتفحص السلة ولم يعثر على الكمية المبينة بها، أيقن دلالة النقصان الذى فضحته الرسالة، فاتهم حامل السلة بسرقة حبات التين، لكن حامل التين أنكر بإصرار جامح ما تؤكده الرسالة؛ بل راح يلعن تلك الورقة، متهمًا إياها بالكذب، وكأنه بذلك قد اعدم الحقيقة وطمسها. أرسله صاحب العمل مرة أخرى إلى الشخص نفسه، حاملاً إليه سلة تحوى حبات من التين، ترافقها رسالة تفصح عن عدد حبات التين المرسلة، صحيح أن حامل السلة قد أكل الجزء الأكبر من حبات التين المرسلة، نظرًا إلى افتقاده الإحساس بالعدالة، وافتقاره إلى ضمير ضاغط لإحقاق الحق، لكنه هذه المرة لكيلا يتعرض للانفضاح، ولكى يمارس احتياله دون مراقبة آليات الاسترصاد والتأثيم، فإنه قبل أن يمد يده إلى حبات التين، حرص على إخفاء الورقة تحت حجر ضخم، حتى لا تكون الرسالة شاهدًا عليه، حيث يعتقد أن الرسالة، إذا لم تره يأكل التين، فلن تستطيع إفشاء سره؛ لذا فإنه فور انتهائه من استباحته ما لا يستحقه، أعاد الورقة إلى موضعها فى السلة، وتوجه إلى الشخص المراد تسليمها إليه، الذى من فوره طالع الورقة، وراجع عدد حبات التين فى السلة، فاتهم حاملها من جديد بأنه استولى على نصف التين المرسل إليه؛ فإذ بالمتهم ينحشر فى مضائق الارتباك، ويمتثل، مقرًا بفعلته، معبرًا عن انبهاره بالطاقة الخارقة لهذه الورقة، معاهدًا صاحب العمل أن يكون وفيًا، متوخيًا الصدق فى كل تعاملاته مستقبلاً. هذه حكاية رواها جون ويلكنز 1614 - 1672، رجل الدين، والعالم، والمؤلف الإنجليزي، فى معرض حديثه عن أن فن الكتابة تبدى غريبًا عندما اكتشف أول مرة، وأورد هذه الحكاية التى تشير إلى كيف اكتشف الأمريكيون مذهولين، أن هناك من يتحدثون إلى الكتب، حيث كان عسيرًا عليهم أن يصدقوا أن بإمكان ورقة أن تتحدث إلى بشر. صحيح أن حامل السلة قرر أن يكون وفيًا، صادقًا فى تعاملاته، وصحيح أيضًا أعلن انبهاره بالقدرة الخارقة للورقة، لكن الصحيح كذلك أن المسكوت عنه، أن الرجل قد تصور أنه بتغييبه الورقة تحت الحجر، وإبعادها عن وجوده، لن يسمح لها بمعرفة ما يفعله، لكنها- وفق تصوره- قد تخطت مكانها، واستطاعت أن تتعقبه دون أن يراها، ودون أن تستضيء بحضورها إلى مكانه، فشاهدته وهو يأكل التين، وباحت بما كان خفيًا، إذ أخبرت صاحب السلة عن عدد حبات التين التى أكلها. ترى أهو استدراك صادق لخطاب مسالمة، من جانب حامل السلة، إقلاعًا عن استباحته حقوق الآخرين التى أؤتمن عليها ؟ أم محض حيلة يمتطيها للاستمرار فى عمله، حتى يتدبر مستقبلاً إعفاء نفسه من أمر مواجهة حرب هذه الورقة بإفشائها استباحته حقوق الآخرين؟ أم هو كسل العقل المستقيل عن ممارسة الاجتهاد المعرفي؟ ترى لو كان حامل السلة قد عرف أن هناك ما يسمى ماكينة الإبصار التى تحدث عنها المفكر الفرنسى المعاصر بول فيريليو مشخصًا انفرادها بقدرتها على تغييب دور العين الإنسانية فى عملية الإبصار؛ إذ تحل محلها فى أداء دورها؛ بل تدفعها بتأثيراتها ، وتشويهاتها إلى تصديق العدم، والاعتقاد بما لم يكن له وجود قط، أو تنفى رؤية ما حدث، أو ما يحدث وكأنه لم يقع. ترى هل كان حامل السلة سوف يستخدم ماكينة الإبصار، التى من خلالها يمكنه إجبار صاحب التين بحيث لا يرى إلا ما يريد له أن يراه، بالمخالفة لما حدث حقيقة، اعتمادًا على عتاد ماكينة الإبصار من أساليب التضليل، والحجب، والالتفاف، بخلق واقع افتراضى آخر غير حقيقي؟ إن حامل السلة قد يستخدم ماكينة الإبصار استخدامًا فرديًا، ليخدع الآخرين ويضلهم، ومن الممكن ألا يستخدمها، وربما يهيمن الوهم على حامل السلة، ويسكنه، فيذوب فيه ذوبانًا تامًا ، عندئذ يصبح الوهم لديه يقينًا مطلقًا، فيتجلى له بأنه وحده معيار صحة ومرجعية لكل ما يفعله. إن ذلك يعنى أن يصبح العمى شكلاً من أنواع التصنيع، بمعنى عدم حضور الإنسان المقترنة حقيقته بواقعه، عبر اختلال يصيب الرؤية والإدراك، بإلغاء مبدأ الحقيقة. ترى هل ثمة دوافع خفية، ومضادة للتوجه التوافقى وأهدافه المجتمعية، وفقًا للضوابط التى تحمى عدالة العيش المشترك، الذى رهانه حماية الحقوق؟ إن الممارسة الرشيدة العقلانية للديمقراطية التوافقية، هى الرأسمال المجتمعى الأكثر أهمية، لعدالة همها منع الضرر بوحدة الوطن. لمزيد من مقالات ◀ د. فوزى فهمى