حدثت قطيعة كارثية لشعب كان يعيش عند جبال الإنديز فى أمريكا الجنوبية، إذ بسبب زلزال ضخم، نتجت عنه انهيارات صخرية، عزل هذا الشعب عن العالم الخارجي، فى واد شديد العمق والغموض، لا أحد يعرفه، أو يستطيع الوصول إليه؛ لكن تتوافر فى فضائه الطبيعى الشروط العامة الضامنة لحياة الطمأنينة والاستمرار، لاستيفائها متطلبات النشاط الإنسانى الآمن، إنتاجًا واستهلاكًا واكتفاءً؛ لذا انخرط الشعب فى رغد العيش دون أزمات. ترى ألا يعنى انعزالهم عن بقية المجتمعات انعزالا عن الزمن العام، ويشكل أزمة بينهم وبين المجهول؟ مرت سنوات، وإذ بالوجود الجماعى لهؤلاء السكان يلحق به إعصار مرض غامض وعام، أصابهم بفقدان حدة الإبصار، فجمعوا أموالهم وحليهم وأعطوها لأحدهم، وطلبوا إليه البحث عن تعويذة لعلاج ذلك العماء. لقد فضلوا التعامل مع أشباح الأفكار، دون التفكير فيما اكتسبته البشرية من إنجازات معرفية، ليس فى شئون الجراثيم والعدوي؛ بل فى شتى المجالات. غادر الرجل الوادى ولم يعد، فى حين ظل السكان ينتظرونه دون تدقيق لواقع الحال، وفى ظل امتداد زمن المرض، تبدد لديهم البصر نهائيًا، وأصبحت الأجيال الجديدة تولد عمياء، وتجهل كل شيء عن حاسة الإبصار. إن سكان الوادى لم يعتصموا بمشروعية السؤال الملتصق بجوهر الأسباب، بحثًا عن التعليلات الإدراكية لبلائهم؛ بل إنهم كذلك استسلموا للسلبية والإذعان والانتظار، وذلك ما دعم استيطان العماء وانتشاره، ثم بتوالى الأجيال استحوذ هذا المنعطف الانتكاسى على يقين الوعى الجمعى للسكان، وأصبح أمر امتلاك حاسة الإبصار من اليقينيات المنهارة. كما أهدر النسيان وبدد جسور ارتباطهم بضفاف ذكرياتهم عن عالمهم الخارجي. وعلى الجانب الآخر فإن واقعهم خلخل كل اليقينيات السابقة، ليوطن عزلتهم فى مواجهة المستقبل؛ لذا فإنهم فى ضوء الممكنات المفتوحة أمامهم، راحوا يجيبون عن أسئلة كيفية ممارساتهم حياتهم ووجودهم فى ظل عزلتهم وخسارتهم أبصارهم، فمارسوا بالشحذ المذهل الفائق طاقة حواس السمع، والشم، والإحساس، وقوتهم البدنية، استيلاءً متماديًا على واقعهم الراهن، واستمرت الحال حتى بعد مرور خمسة عشر جيلاً، حيث لم يعد الإبصار جزءًا من واقعهم؛ إذ ولدوا وهم فاقدون للبصر، وليس لديهم إحساس بالفقدان، ولا يرون ظلماء. لا خلاف أن فعاليات الشعوب تضم إبداعاتها الفنية المتعددة، والتى تتأسس على علاقة نشيطة تتحقق بالمباشرة الموصولة بنبض شبكة الوجود الاجتماعي، التى تفك رموز الواقع وتحلل مشكلاته، وتثرى المجتمع بإدراكات جديدة، ومن مصادر تلك الإبداعات، التاريخ، والتجارب الاجتماعية، سواء فى ماضى تلك الشعوب أو حاضرها؛ لذا يحتد السؤال: ترى لماذا غاب عن سكان الوادى ممارساتهم لاستحضار ذكرياتهم فى إبداعات فنية سردية بلغة شفهية، بوصفها رصيدًا يتشعب فى الوجدان الفردى والجماعى للناس، تطرح عبر الأجيال نبشًا للذكريات الدفينة، استهدافًا لمطاردة اليأس، ومناداة للأمل سعيًا إلى شحذ التحرر من نقص الحاضر، وامتلاك ما لا يمتلكون إثراءً لوجودهم؟ كان «نونييز» واحدًا من الذين يتسلقون جبال الإنديز، ثم انزلق من مسافة ألف قدم، وسقط على وسادة ثلجية، أحاطت به، وأنقذته من الموت، وحمته من كسر عظامه. عندما تجاوز غيبوبته، وآلامه المبرحة، راح يمشى مستكشفًا مخرجًا، فإذ به أمام وادى العميان، حيث أبهره بشقيه الطبيعى والإنساني، بما تجلى فى ثراء بيئته وتوازناتها، وتلازم الحس الإنسانى مع معطياتها، لكنه لاحظ أن المنازل كلها لا نوافذ لها، وأيضًا تأذى من قبح ألوانها، وخلال خريطة إجراءات لقائه مع سكانها، حيث يسبق الجسد كلام قائله، أدرك «نونييز» عماء سكانها، فتصور أن السلطة عليهم شاخصة إليه، وهو يستحقها بوصفه مبصرًا، لكنه اكتشف بالمعاينة أنهم يمتلكون تطويرا فائقا مذهلاً لمشتقات المعرفة والقوة، باشتغالهم على شحذ حواسهم وقوتهم البدنية. راح يحدثهم عن البصر، والسماء، والأشجار، والورود، وكل ما يفقدونه، وهم لا يحسون افتقادًا؛ لأن ليس لديهم مدركات بصرية، فسخروا منه، واتهموه بالجنون، وضعف الحواس، وأصبحا يشكلان معًا الخلاف المطلق؛ إذ سكان الوادى يختصرون الإنسان والعالم فى ذاتهم، أما خطاب «نونييز» فهو يقوض حياتهم ويلغيها، ويهددهم بفقدان منظومة حياتهم المعهودة. حاول الهرب وفشل؛ للقطيعة الحاسمة مع الحياة خارج الوادي، فعاد مستسلمًا، فأجبروه على إنكار عصيانه وكل ما قاله نتيجة ضعف عقله فقبل، عوقب بضربات من السوط، وألحق بالعمل عند «جاكوب»، فنشأت علاقة حب بينه و «مادينا» العانس ابنة «جاكوب»، التى كانت تستمع إلى أقواله الغريبة ولم تسخر منه، ثم قررا الزوج، لكن بوصفه الغريب المختلف المجنون، رفض الأب وشباب الوادى زواجهما، غير أن الطبيب أفتى مفسرًا أن سبب جنونه واختلافه وإفساد مخه، يقع فى هذين الشيئين المنتفخين وما عليهما من أهداب يتحركان، وهما ما يسميهما العينين، وبإزالة تلك الشوائب سوف يسترد عقله، ويصبح مؤهلاً للزواج. سمعت «مدينا» من أبيها شرط الزواج، فهرعت إلى «نونييز» لتخبره. لاشك أن خطاب الهيمنة، صريح ومضمر معًا، ومداهم أيضًا للوجود الإنسانى بكل استحقاقاته، إذ الحب استحقاق إنسانى لأنه جميل، والحقيقة أيضًا استحقاق إنسانى لأنها جميلة، لكن على «نونييز» أن يلغى إدراكاته بأن يزيف الحقائق وينكرها، ويحرم من إبصاره الذى يميزه فلا يصبح مختلفًا؛ عندئذ يفتح المجتمع المغلق أبوابه له؛ فيتزوج «مدينا» التى يحبها. صحيح أن «نونييز» يختطف من وجوده وينسف حين يتنازل عن بصره، الذى ظل يتحدث عن قيمته وأهميته، لكن الصحيح كذلك أن رفضه يعنى أن يظل جرح الحب نازفًا فى الأعماق لا ينتهى إلى التئام. إنها محنة أليمة، وعليه أن يختار، ترى هل هو أضعف من أن يرفض أم أكبر من أن يقبل؟ فى لقائه »مدينا« كان لا بد من حسم مطلق لمستقبله، وكانت محنته فى اكتشافه الحقيقة لحظيًا؛ بأنها مثلهم تمامًا تحمل سلبية جذرية، تبدت فى إملاءات مفادها أنها تريد له فقدان البصر، وألا يكرر الحديث عن الأخيلة، فهى لم تصدق ما سمعته منه، وسوف تعوضه عن ذلك بحبها. انتابه الغضب للمسار الكئيب، وشعر بالرثاء لعدم قدرتها على الفهم، مودعًا إياها بالموافقة وهو لا يزال غير واثق. أنهى الكاتب «ه. ج. ويلز» قصته «أرض العميان»، بهروب «نونييز» من الوادي. ترى لماذا هرب ثانية؟ لاشك أنه أيقن أن السيادة المطلقة إذلال للعقل، وأن وجوده الإنسانى مشروط بقدرته على اكتساب مقاومة ضد إملاءات الهيمنة المداهمة التى تتهدده، والرهان هو عدم الخضوع لها، وإذا كان سكان الوادى تناسوا حق البحث عن الحقيقة، وجمدوا حق الفهم، فإنه يتمسك بحق الدفاع عن الحقيقة، وتفعيل حق الفهم، أما الشرط الأول للحب، فهو أن يكون الإنسان حرًا، وفى أرض العميان سيكون أسيرًا بأصفاد إملاءات الهيمنة التى تدحره وتتحكم به، فتجرده من أهليته للسيادة على ذاته، رافضة بعناد أعمى الاختلاف والمغايرة. ترى هل ثمة اختلاف عن إملاءات الهيمنة الأمريكية التى تستهدف السيادة المطلقة على الحاضر والمنتظر؟ لمزيد من مقالات د. فوزى فهمى