د. فوزي يربط حكمة الأدب العالمي بسلوكيات البشر غلاف الكتاب محيط – شيرين صبحي يهدي الدكتور فوزي فهمي كتابه الجديد إلي روح شيخه واستاذه شيخ نقاد مصر د. محمد مندور، في ذكري مئوية ميلاده، والذي نبهه أن "علما بلا ضمير خراب للنفس والوجود، وأن الضمير يخاصم القبح، وأنه بقدر ما نحن في حاجة أن ننتقم من الفقر، فإننا في حاجة أيضا أن ننتقم من القبح". ويرتكز كتاب "وقفات متأنية" الواقع في 392 صفحة من القطع الكبير، علي استدعاء بعض الإبداعات الأدبية والفنية المتنوعة التي تتقاطع مع بعض وقائع حياتنا المعاصرة، فتتيح وقفات متأنية لقراءة متأملة، تفتح أفقا لفهم الحياة واغتناء الوعي بها. نقرأ علي الغلاف الخلفي للكتاب الصادر عن أكاديمية الفنون، ضمن إصدارات اليوبيل الذهبي كلمة بقلم د. عصمت يحيى، رئيس الأكاديمية، يقول فيها " فوزي فهمي رجل نذر نفسه، وعصر روحه من أجل تحقيق أهدافه، لكنه فعل هذا في صمت يدعو إلى الإعجاب وبلا ضجيج، رافضا كل تكريم، مترفعها عن كل إطراء.. وهو في هذا الكتاب يعتصر روحه وعقله، ويقرأ أعظم أعمال الدراما لكي يستقطر منها جملة أو اثنتين تصلحان للانطباق علي أحوالنا المعاصرة. الحرب الدائمة ارتكب الشاب جريمة قتل المرأة العجوز، والمفاجأة أنه راهن علي قتلها ليؤكد انه قادر علي تخطي الحواجز وإزالة العقبات الأخلاقية أمام حريته. إن جريمته تستند إلي نظريته بأن الناس بحكم قوانين الطبيعة ينقسمون بوجه عام إلي فئة أدني هي فئة العاديين الذين ليس لهم وظيفة إلا أن يتناسلوا، وفئة عليا هي الاستثنائيين الذين أوتوا موهبة أن يقولوا في عالمهم قولا جديدا. وفي ظل نظريته أن الإنسان من فئة العاديين هو أدني من القرد، مخلوق مرتجف، وأن الإنسان الأقوي يحق له أن يتصرف بالمخلوق المرتجف كما يشاء. لذلك أعلن الشاب بعد ارتكابه الجريمة: "أنا لم أقتل امرأة عجوزا وإنما قتلت مبدأ".. أنه يرفع شعار "الحرب الدائمة كمشروع لفكرته الملعونة التي تبرز الاستثناء وتكرس الازدراء لكل شخص والكراهية للجميع فتفضي إلي الدمار الشامل. عندما يسأله القاضي " كيف يمكنك التمييز بين الناس الأدني العاديين والأعلي الاستثنائيين؟" لا يلق جوابا لسؤاله الذي أراد به إدانة الشاب، لكن الشاب لم يكلف نفسه مشقة البحث في صحة منطقه، ولم يشعر بالندم علي جريمته، معلنا: "إن ضميري مرتاح. بالطبع ارتكبت عملا غير شرعي، وبالطبع تم خرق القانون وأريق الدم.. حسنا.. خذ رأسي لترضي نص القانون، ولتكف عن الحديث". يمرض الشاب في سجنه وتنتابه حالة هذيان كررت حلما واحدا، بأن مرضا مخيفا اجتاح العالم، مات الجميع إلا قلة مختارة، أخذت كائنات ميكروسكوبية مكانها في الجسم، كائنات مزودة بعقل وإرادة والبشر الذين تدخل أجسامهم يصبحون علي الفور مجانين لكنهم يعدون أنفسهم علي ذكاء عظيم وأنهم معصومون من الخطأ. لم يستطع الناس فهم بعضهم وراحوا يذبحون بعضهم، ولم يبق في العالم سوي قليل من الأخيار. الرسوم المسيئة بدعوى حرية التعبير كان الشاب من بعد شفائه دائم التأمل في حلمه الذي جسد له "الحرب الدائمة" كنتيجة لنظريته. طلب "إنجيلا" ووضعه تحت وسادته. يقول د. فهمي إن راسكولنكوف بطل رواية "الجريمة والعقاب" رائعة الروسي دستوفسكي، كان أسوأ ما في محنته أنه عجز أن يجد نفسه في الآخر وأن يجد الأخر في نفسه، وهي مشاعر نافية للتواصل الإنساني. إن دستويفسكي يؤكد أنه عندما يصبح كل شىء مباحا تنقلب الحرية استهتارا. ويتساءل مؤلف الكتاب هل يدرك أصحاب الرسوم المسيئة المطالبون بحرية التعبير المطلقة، ان هناك أخرين يشاركونهم المطلب نفسه في حريتهم في معتقدهم الديني وحمايته من اعتداء الأخرين؟ وهل سوف تواجه الأممالمتحدة مفهوم أصحاب نزعة الحرب الدائمة باستصدار ما يستكمل فجوة المادة 18 من ميثاق حقوق الإنسان، التي ترسخ حقه في حرية معتقده الديني لكنها لا تردع تجاوزه عندما يمارس ازدراء أديان الأخرين تحت شعار حرية التعبير؟ أو أن ذلك نوع من الفوضى التي تدعو إليها الولاياتالمتحدة؟ تصنيع العمي يعرض المؤلف لرائعة الكاتب البلجيكي موريس ماترلينك، المسرحية "العميان" التي كتبها 1889 م. وتدور حول مجموعة من العميان تتكون من 12 شخصا نصفهم من الرجال والأخر من النساء، يقصدون الكاهن المقيم في الجزيرة كي يشفي لهم أبصارهم، لكنهم يغادروها بعد أن يمكثوا سنوات دون شفائهم. ينتظرون الكاهن "ماكينة إبصارهم"، ويتبادلون الأسئلة والأجوبة ويعيشون معا لكنهم لا يعرفون حقيقة ما هم عليه حتي أنهم لا يميز بعضهم أصوات بعض، ولا يتعرفون أصوات طيور الجزيرة التي يعيشون عليها منذ سنين. يأتيهم كلب الدار لاهثا ويجر أحدهم ويقوده إلي الكاهن الجامد البارد الجسد، فيلمس الأعمي وجه الكاهن الذي مات بينهم دون أن يدري أحد.. فكارثة رحيل الكاهن تجسد كارثة حياتهم بفقدانهم "ماكينة الإبصار". عند سماعهم خطي تقترب منهم، حاولوا الإنصات، وفجأة ارتفع صوت بكاء مباغت فأدركوا أنه طفل المرأة المعتوهة العمياء فهو الوحيد بينهم الذي يبصر، وحتما أبصر شيئا أخافه فبكي.. حملت الشابة العمياء الطفل وراحت تسأله عما يراه، ثم رفعته إلي ما فوق مجموعة العميان حتي يستطيع أن يري جيدا، ونسي الجميع ان الطفل يمكنه أن يري لكن لا يمكنه أن يخبرهم لأنه ما زال عاجزا عن الكلام. وأكدت المرأة العجوز أن الخطي أصبحت في وسطهم، ثم ساد صمت قطعته العجوز الأكبر سنا تتوسل الرأفة بحالهم. وساد صمت مرة أخري شقه بكاء الطفل متفجعا. ثم يسدل الستار ويوضح الكتاب أن مؤلف المسرحية يستخدم العماء رمزا للدلالة علي كف أفراد المجتمع عن رؤية واقعهم وإدراك الوسط المحيط بهم، مدينا بذلك عدم حضور الإنسان. إعادة الرسالة الخطأ حدث أيام نجم الدين أيوب، حاكم مصر، أن تولي القضاء العز بن عبد السلام، الذي مارس سلطته بصدق وعدل، وعندما مست أحكامه أمراء المماليك العابثين بالحقوق بعد رحيل نجم الدين، طالبوه بإبطال أحكامه فرفض. وعندما ملّ أمراء المماليك أحكامه، دسوا له عند الحاكم فعزله، وكانت تلك هي "الرسالة الخطأ".. حمل الرجل متاعه واصطحب أهله مزمعا الهجرة، لكن أهل مصر خرجوا نساء ورجالا في مسيرة كبري يعلنون الهجرة مع قاضيهم، تأكيدا منهم وبرهانا علي خطأ الرسالة التي دفع بها المماليك، لحظتها أعيد الرجل إلي مجلس قضائه. أيمن نور يربط المؤلف مطلب أمراء المماليك، بالمطلب الأمريكي بتعطيل الحكم الذي أصدره القضاء بنفاذ عقوبة السجن علي د. أيمن نور لاتهامه بالتزوير، ويري أن هذا المطلب يعتبر اعتداء علي مؤسسة العدالة حيث يتهمها بالهوي. ويعلق المؤلف "صحيح أننا نرفض أن يكون الشأن الداخلي موضوعا للمساومات، لكن بالقدر نفسه علينا أن نحسن تصدير حقيقتنا، وأن نواجه كل ارتباكات معارك الداخل والخارج في مسيرة الإصلاح، بالتعقل والفطنة والحكمة ونستوعب الاستفزازات، ونتدبر مشكلاتنا بالانتباه للأخطار الماثلة علي مصيرنا، وذلك لا يتأتي إلا بالقراءة غير المغلوطة للأحداث والممارسات، وإدراك أجندة المسكوت عنه". خارج الزمن علي مسافة كيلومترين من المدينة تقع مصحة لمرض جلدي مهلك، تعزل المصابين بداخلها، تحرسهم فرقة جنود. كان المصابون يجتمعون في الأمسيات عند السور ويطرحون أسئلة استفساراتهم عن العالم الخارجي علي الحرس، ليحكوا لهم ما يجري في المدينة. ويبدو أن المرضي رغم عزلتهم لم يفقدوا وعيهم بالعالم الخارجي، ويحاولون التواصل معه معرفيا. كان هناك مريض وحيد فقط لا يحضر أبدا هذه الأمسيات، شاب من أسرة عريقة دخل المصحة منذ شهرين، وكان المرضي يسألونه عن سبب عدم رغبته في مشاركتهم الاستماع إلي الأنباء، ويحاولون اغراءه لأنهم يدركون أن وجودهم الإنساني لا يمكن أن ينفصل أو ينعزل. لم يكن الشاب يدرك قيمة التواصل الإنساني، ويبرر لزملائه عدم خروجه بأنه علي النقيض منهم، فهم قد استسلموا لعدم الخروج أما هو فيتصدي للمرض برغبته في أن يبرأ منه، لذلك فهو لا يعنيه من هذا العالم سوي الشفاء وعودة جسده. كان من بين المستمعين للشاب، شيخ يبلغ من العمر مائة وعشر سنوات، قضي منها مائة عاما بالمصحة، ويطرح علي الشاب نتائج التجربة الشاهد عليها بالمصحة وهي أنه لم يخرج من المصحة أحد، مؤكدا أنه مع حقيقة استحالة الشفاء فإن ممارسة الحياة مازالت في استطاعة الجميع. ظل الشاب يمارس صلاته لمدة عامين ونصف، ثم خرج من سجنه الذاتي وقد شفي تماما، وعندئذ سمحوا له بالخروج من المصحة. ولا شك أن شفاء الشاب أربك الشيخ وزلزل مفاهيمه المغلقة، فرافق الشاب حتي بوابة الخروج ليستوثق من حقيقة رحيله، وعندما فتح الحارس البوابة ابتسم الشاب لهذه الحرية، لكن فجأة راح يشحب لونه، وأخفي عينيه بيديه رافضا رؤية المدينة، لقد غدا كل شىء في نظره رهيبا. لقد تعارض كيانه الجديد مع مفاهيمه وذاكرته القديمة، حيث استعصي عليه في لحظة أن يخرج إلي المدينة، لحظتها تلقفه الشيخ ليعود للمصحة، دفاعا في استماتة عن مفهومه، بالزيف وإنكار الحقائق، وظل به حتي أذعن الشاب وعاد للمصحة! يطرح المؤلف الإيطالى دينو بوتزاني في قصته "طالب الشفاء"، أخطر ما يهدد أي مجتمع وهو ذلك النوع من البشر الذي يمثله الشاب والشيخ معا، بوصفهما نموذجا لعدم إمكان التحرر من الخضوع لمفاهيم ثابتة قديمة، والوقوف خارج الزمن. ويؤكد د. فوزي فهمي إن هذا النوع من البشر هو المعوق الأساسي لأي إصلاح، إذا يتخذون قراراتهم في شأن حاضرهم في سياق حسابات الماضي. تبديد الثقة هل الرجل سىء الحظ مع النساء؟ فقد تزوج مرتين عن حب لكنه أخفق في التجربتين.. ينظف الرجل البيت من مخلفات الزوجتين ويصيح "ليذهبن إلي الجحيم". يقرر الرجل أن يعيش وحيدا لفترة، فيذهب إلي منتجع لقضاء العطلة من دون أن يصطحب معه امرأة. وبينما يستلقي علي الشاطىء رفع حفنات من حصي صقلها البحر وبدأ ينظر إليها فإذا بها كنز حقيقي خاتم من الماس والياقوت، وقد استوقفه جمال الخاتم ومحاولة معرفة صاحبته التي فقدته وكيف انزلق من إصبعها، وقد تخيلها امرأة محبة أنيقة أو زوجة رقيقة محتجبة. أخذ الرجل الخاتم إلي صاحبة المطعم فساورها الشك وطلبت منه الذهاب به إلي الشرطة، لكنه لم يذهب ونشر إعلان في صحيفة محلية بالواقعة.. يتلقي الكثير من المكالمات التليفونية من رجال يدعون أن زوجاتهم أو أمهاتهم فقدن خاتما علي ذلك الشاطىء ويطلب كل منهم أن يثق به. يمارس الرجل قراءة استكشافية لزحف النساء مثل تلك المرأة التي أقنعت الرجل أنها بالفعل قد فقدت ذلك الخاتم تحديدا ووصفته له تفصيلا ثم غادرته معتذرة عن إزعاجه ولم تطلب تسلم الخاتم.. يوضح الموقف أنها لم تفقد الخاتم وإلا لم تركته إذن رغم تمكنها من الحصول علي ثقة الرجل واقتناعه؟ جاءت إليه امرأة أخري فطلب منها أن تصف الخاتم فوصفته وصفا عاما وبررت جوابها بأنها مع امتداد زمن اعتيادها وإلفها الخاتم في إصبعها فقدت ملاحظة وجوده، فما كان من الرجل إلا أن قدم إليها الخاتم.. دعاها إلي العشاء. لقد أصبحت زوجته الثالثة، وذلك يؤكد أن الرجل ما زال قادرا علي منح الثقة للآخرين دون عجز أو عماء. يوضح المؤلف أن الكاتبة الشهيرة من جنوب إفريقيا "نادين جورديمر" في قصتها "اللقية" تؤكد أن أخطر ما يمكن أن يواجه أي مجتمع هو تردي مستويات الثقة بين أفراده، بوصف الثقة رأس مال اجتماعي.