لم يعد هناك أحد في مصر الآن إلا ويطالب بعودة الأمن والاستقرار, في ظل اختلاط الحابل بالنابل, وتساوي البلطجي مع العاطل, يبدو هذا المطلب صعب المنال. وعندما يعترف اللواء أحمد جمال الدين وزير داخلية مصر أمس في حواره لالأهرام بأن أمن المجتمع بحالته الراهنة تجاوز دور الشرطة بمفردها الي كل المجتمع دون استثناء, فإن المهمة تصبح أكثر تعقيدا, فخيوط الحلول متشابكة للغاية, والمخاوف تحاصر الجميع.. ومع ذلك فإن هناك اتفاقا عاما علي أن ما يرتكب من ممارسات ومخالفات وأعمال بلطجة مرصود من جميع الأجهزة والمواطنين أيضا, لكن المجتمع كله يقف إما عاجزا أو متخاذلا. كثيرون أرجعوا ما نحن فيه الآن إلي تهالك مفاصل الدولة المصرية, وانهيار البنية الأساسية الإدارية لكن هناك اجماعا علي ضرورة البدء بإصلاح المنظومة كلها وأن نبدأ بالمراحل العاجلة لوقف الفوضي, وإعادة هيبة الدولة مرحليا بتطبيق القانون ووضع الحلول البديلة لأصحاب المطالب. بداية, وقبل أن نتحدث عن الحلول, التقينا بمصدر أمني مسئول بوزارة الداخلية, وطرحنا عليه السؤال المهم: أليس هناك حل يعيد الأمن والانضباط الي الشارع المصري الآن ولو جزئيا؟ الإجابة أطلقها المصدر دون تفكير, ويبدو أنها محفوظة لدي قادة الجهاز الأمني.. وقال: الداخلية لن تدفع ثمن أخطاء الآخرين مرة ثانية, ويكفي ما دفعناه علي مدي السنوات الماضية, وما تعرض له الضباط والجنود من اهانات, ولم ينكر المصدر أن هناك انحرافات طالت كل قطاعات الدولة بما فيها الداخلية.. فعلي مدي سنوات طويلة ونحن نقوم بعمل الوزارات الأخري في التأمين والحماية وحل المشكلات الإدارية والسياسية, وهذا ليس دورنا, لدرجة أن الضباط أنهكتهم هذه الأعمال وكانوا يعملون42 ساعة بلا نوم, وفي النهاية يلقي المجتمع كله عليهم الآن باللوم والتقصير, والجميع يعرف أن سبب الفوضي والزحام في الشارع يرجع مثلا لغياب الرؤية والتخطيط من جانب المحليات, وضرب المصدر المسئول مثالا بالحملة التي تقوم بها الأجهزة الآن لإخلاء الشوارع من الباعة الجائلين, مؤكدا أن هؤلاء الباعة منهم الفقراء فعلا ومنهم العاطلون الباحثون عن الرزق ويندس الآن بينهم البلطجية والمسجلون خطر. سألته.. إذا كنتم تعرفون ذلك فلماذا تتركونهم وأنتم تعلمون مدي خطورتهم؟ المسألة في تقدير المسئول الأمني تحتاج الي إجراءات أخري جديدة, فقبل أن تداهم الباعة الجائلين يجب أن توفر لهم بدائل حقيقية, وإلا فسوف يتحالفون مع البلطجية بل والشياطين من أجل حماية مصالحهم.. وبالتالي فجميع الحملات التي تقوم بها الشرطة حاليا والتي قمنا بها عشرات المرات قبل وبعد ثورة52 يناير لن تكون مجدية لأنه يجب أن يسبقها حلول أخري. وحول كيفية التعامل مع المسجلين الخطرين والبلطجية, سألنا أحد ضباط المباحث الكبار بقطاع شرق القاهرة فأكد أن جهاز الشرطة لديه معلومات كافية عن معظم هؤلاء المسجلين والبلطجية, ويعرف أماكنهم, لكن المسئولين عن الأمن لديهم خشية منهم, لأن عددا كبيرا نجح في تجنيد الكثير من العاطلين من أبناء المناطق الشعبية, وضرب الضابط الذي رفض ذكر اسمه مثالا بمناطق الدويقة والفسطاط وعزبة خيرالله وغيرها من المناطق التي أصبحت معقلا لتجمعات الخارجين عن القانون, وأكد الضابط أن منطقة عزبة خيرالله عاد إليها الهاربون والمسجلون وأصبحت تمثل جمهورية مستقلة للفوضي والمخدرات وايواء الخارجين عن القانون, وكذلك عزبة أبوقرن التي تقع خلف جامع عمرو بن العاص التي يقولون عنها إن بيع المخدرات بها يتم جهارا نهارا علي حسب كلام المصدر دون تعميم, وكذلك مناطق مقابر اليهود التي يوجد بها عصابات لسرقة السيارات.. وهكذا. وأشار المصدر الي عودة ما يطلقون عليه اسم الدولاب في أماكن عديدة, حيث يخصص أحد الخارجين عن القانون منزلا لبيع جميع أنواع المخدرات والسلاح والبضائع المهربة والمسروقة, مثل الفياجرا وغيرها, ويطلقون عليه اسم الدولاب لأنه شامل, وهناك ابن تاجر مخدرات كبير كان مسجونا لسنوات طويلة عاد بعد الثورة ليمارس هذا النشاط, وهناك عدد من المسجلين الكبار يخشي الضباط الاقتراب منهم خوفا علي حياتهم وعلي أولادهم. انفلات في كل مكان الانفلات الأخلاقي لم يتوقف عند حدود الشوارع, بل طال أقسام الطوارئ بالمستشفيات والتي تعاني الاعتداءات المتكررة حتي إن الكثير منها أغلق أبوابه في وجه المرضي مضطرا, بعد وقائع سحل الأطباء وتحطيم الأجهزة التي تحدث بشكل شبه يومي, كما يقول الدكتور خيري عبدالدايم نقيب الأطباء. صحيح أن هذه الاعتداءات لا تؤدي جميعها الي إغلاق قسم الاستقبال أو الطوارئ, إلا أن بعضها يتسم بالعنف الشديد, وتسبب في غلق طوارئ مستشفي جامعة الاسكندرية منذ أسابيع وكذلك طوارئ مستشفي جامعة عين شمس, وللأسف فإن حالات التعدي التي تتراوح بين السب والاعتداء بالضرب وتصل الي تحطيم المستشفي والأجهزة الفنية لا تلقي أي اهتمام من جانب وزارة الداخلية التي خاطبناها مرارا وتكرارا وما زال الكلام لنقيب الأطباء أحيانا بشكل مباشر, وأحيانا عبر وزارة الصحة, وقد أرسلت النقابة مؤخرا تطالب بعقد اجتماع بين النقابة ووزارات الصحة والداخلية والتعليم العالي للوقوف علي حلول لهذه المصيبة. ومن جهتها وضعت النقابة عددا من النقاط التي لابد من مناقشتها مع هذه الجهات ليصلوا الي التأمين الكامل للمستشفيات, وتشمل نظام الاسعاف والربط بينه وبين المستشفي, ووضع قواعد لوجود مرافقين مع المرضي, فلا يسمح بدخول أكثر من زائرين مع المريض, وتؤخذ منهم البطاقة الشخصية. وتحدث الدكتور عبدالدايم عن ضرورة توافر كاميرات للمراقبة بالمستشفيات, بالإضافة الي تجهيز الطوارئ بالتجهيزات الطبية الكافية وعدد الأفراد المناسب, وأخيرا وضع نقاط أمنية ثابتة ومتحركة بالمستشفيات, وعلي رغم صراخ الأطباء المتكرر فإن الأمن مازال غائبا عن الواقع الحقيقي لأزمات البلاد. الصورة القاتمة التي تعانيها مصر الآن تجمع ما بين فوضي السلوك والغياب الأمني والتطاول علي القانون في كل مكان. وفيما يتعلق بفوضي الشارع المصري, سألنا اللواء أحمد عاصم الخبير المروري حول كيفية المواجهة الحاسمة لفوضي الشارع, فأكد ضرورة وضع استراتيجية قادرة علي مواجهة جميع المشكلات الحالية من خلال خطط قصيرة المدي وأخري طويلة الأجل, وتعتمد الأولي علي البدء فورا في إزالة المخالفات والاشغالات وتفعيل القوانين وتطبيق مبدأ الثواب والعقاب علي الجميع دون استثناءات مع العمل علي إعادة التنظيم الكامل للميادين, ومن الضروري أن يتزامن مع ذلك إجراء أعمال الصيانة والرصف وانجاز جميع المراحل المتبقية لمترو الانفاق, والنهوض بكل وسائل النقل الجماعي عمليا وليس مجرد كلام.. ويندرج كل ما مضي تحت بند الخطة العاجلة التي تليها خطط أخري طويلة الأجل, تعتمد علي ضرورة دراسة نقل الادارات المركزية والوزارات خارج القاهرة ودعم المحافظات بميزانيات جديدة. ولم ينكر اللواء أحمد عاصم, باعتباره خبيرا في التعامل مع أوضاع الشارع, وجود بلطجية مندسين بين الباعة الجائلين وبين قائدي الميكروباص والتوك توك, وفي المواقف وهؤلاء الخارجون عن القانون معروفون لدي الناس والأمن ويجب ان يطبق عليهم القانون بكل حزم وحسم من خلال عقوبات رادعة, خاصة أن هؤلاء الخارجين يعتبرون أنفسهم مديري المناطق والمواقف ويتحكمون في الضعفاء من منطلق أنهم يوفرون لهم الحماية من شرطة المرافق علي سبيل المثال عندما تداهمهم الحملات. وقبل تطبيق عقوبات الردع يجب توفير الأسواق البديلة والسويقات في أماكن أخري, وتقديم التسهيلات للباعة الجائلين وربما تكون فكرة سوق اليوم الواحد حلا مبدئيا بشرط الابتعاد عن وسط القاهرة والمناطق الحيوية وإلا فسوف تتحول العاصمة الي سوق جمعة جديد, وسوف يستمر مولد القاهرة الكبري طوال أيام الأسبوع. سألناه بوضوح.. هل رجال الأمن قادرون علي مواجهة المخالفات والخارجين عن القانون؟ أجاب: نعم.. الأمن قادر علي المواجهة لكن بكل أسف المواجهة لا تجدي الآن ولن تصلح في تصويب ما أفسدته السنوات الماضية, لأن المشكلة الكبري الآن تتلخص في عدم التنظيم وعموم الفوضي علي كل المستويات القانونية والإدارية, وهنا أضرب لك مثالا بمحافظ القاهرة الأسبق عمر عبدالآخر عندما فكر في نقل سوق روض الفرج وشادر السمك أقاموا الدنيا ضده, وكذلك عبدالرحيم شحاتة الذي فكر في تنظيم البيع والشراء في القاهرة أطلقوا عليه النكات بأنه لن يسمح بدخول القادمين الي المحافظات إلا بتأشيرة, وأنه سوف يقوم بترحيل أبناء المحافظات, والرجل لم يطرح هذا الكلام أبدا وكنت شخصيا شاهدا علي هذه الأوضاع وغيرها. خلاصة ما أود تأكيده الكلام للواء أحمد عاصم أن الشرطة لن تعود إلا بعد إعداد المناخ المناسب لكي تقوم بتنفيذ القانون, كما أن حلول المسكنات والحملات التي شبعنا منها كثيرا لم ولن تجدي في إنهاء المآسي التي يعانيها المواطن المصري الآن. ويكفي فقط أن نشير الي حجم المخالفات اليومية والسير عكس الاتجاه وضرب كل قواعد المرور بعرض الحائط, ليس فقط في وسط المدن ولكن علي الطرق الرئيسية والسريعة مثل الدائري والاوتوستراد, بل ان واحدا من أكبر وأشهر ميادين مصر وهو ميدان التحرير ظل طوال عدة أشهر يعاني التكدس المروري وغياب الوجود الأمني به وسير قائدي السيارات كيفما يحلو لهم. أما الأغرب في هذه المخالفات, ليس مرتكبوها فربما اعتادوا علي كسر القانون ولكن الغريب في المواطن العادي, الذي اتخذ نفس النهج وسار وراء هذه الأخطاء وتابعها دون أن يحاول منعها أو اضعف الايمان لا يسير علي نفس النهج. ما يحدث الآن في المجتمع المصري أمر طبيعي علي الرغم من أنه لم يكن متوقعا بهذه الصورة, هكذا وصف الدكتور علي ليلة أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس حالة العشوائية التي تعم المجتمع المصري الآن, موضحا أن هذه المرحلة التي يمر بها المجتمع تعرف في علم الاجتماع بحالة الألومين أي ضعف المعايير الأخلاقية في المجتمع بشكل أساسي, هذه الحالة التي تحدث في المجتمعات عقب الثورات التي قامت علي النظم القمعية مثلما حدث عقب الثورة الصناعية عقب الثورة الفرنسية, وعلي الرغم من توقع علماء الاجتماع لهذه الظاهرة إلا أنهم لم يتوقعوا أن تكون بهذا الحجم, فكنا نظن أن الشعب متماسك! فالمجتمع المصري لم يحدث له تغير أخلاقي بعد الثورة, ولكن البنية الأخلاقية انهارت منذ سنوات عديدة بسبب التحول المستمر بين القيم القومية والاشتراكية والليبرالية, فأصبحنا كل عشر سنوات لدينا قيم جديدة ومع عام0102 كنا شعبا بلا أخلاق يتحكم فينا نظام قمعي قاسي وعنيف ومع ارتفاع قدر الكبت والقهر بدأنا في التصرف كالقطيع الذي يساق بالخوف. .. والإنسان بطبعه له بعدان يحكمانه والكلام مازال للدكتور علي ليلة البعد الأخلاقي والذي يشكل من ضميره الداخلي, والبعد الثاني القانون الذي يضبط الإنسان من الخارج فضعف البنية الأخلاقية وغياب الضمير وضعف المبدأ يظهر انماطا غريبة مثل البلطجة والتحرش والاغتصاب وتبادل الزوجات وغيرها من الجرائم الغريبة التي تتم في الشارع دون تدخل من أفراد المجتمع الذي فقد أخلاقه لفترة معينة وأصبح عقله الجمعي مريضا, ولما قامت الثورة ظهر الكبت الذي كان مدفونا تحت غطاء القمع وبدأنا ننطلق غريزيا وبلا أخلاق ولا نخاف من أحد ولا يوجد قانون رادع ولا شرطة... فإذا كنا نريد الاصلاح فالحل يجب أن يأخذ اتجاهين: الأول هو تفعيل القانون بقوة ومعاقبة من يحيد عنه, وأما الحل الثاني فهو وضع خطة للإعلام واستراتيجية لتحديد القيم التي لابد أن يربي عليها هذا الشعب, وهذا يحتاج الي تكاتف المثقفين والعلماء وهو أمر يحتاج الي وقت.