ذات يوم كنت ألهو علي الأرجوحة.. لاحظت ان العدو يحاصرني من كل جانب.. لم يكونوا تلاميذ الروضة.. بل تلاميذ المدرسة أجمعين.. أي جميع من تتراوح اعمارهم بين الثالثة والسادسة.. انقض الحشد علي.. ولم تكن المقاومة لتجدي.. فاستسلمت كنجم الروك المتعب محمولا علي الأكف.. راحت تلك الأكف المجهولة تترع ملابسي.. كان الصمت مطبقا وإذ غدوت عارية.. راحت الاعين ترمقني.. لم ينبس أحد بحرف.. جاءت الاستاذة وعنفتهم وسألتهم. لماذا؟.. قالوا كنا نود ان نري ما إذا كانت بيضاء في كل موضع من جسمها.. إميلي نوثومب.. ابنة سفير بلجيكي عمل في اليابان وعواصم اخري.. تكتب طفولتها في عفوية مدهشة علي الورق وكتبها في مقدمة الكتب الأكثر مبيعا.. ماهي علاقتها بالجوع وقد عاشت دائما في حضانة دبلوماسية مدللة.. تقول.. الجوع ليس هو التوق إلي الامتلاء.. بل هو الآتي.. حيث لايوجد شيء.. أتطلع أن يكون ثمة شيء وعندما تؤمن بنصيحة الشاعر كانول كف عن أن تريد فلا معني للحياة عندها, منذ نعومة أظافري عانيت الشعور المؤلم بأنني لا أحظي إلا بالحصة الأقل من الشوكولاته ومن الحكايات التي أشتهي.. هناك فرق بين التخمة والضحك علي الذقون.. وأبي مثلا اعتبر انه شهيد غذائي.. شخص حقن بالجوع عنوة من قبل الآخرين ثم تعرض لقمع مستمر.. في صغره كان هزيل البنية حساسا نحيلا فأرغم علي الأكل بألف وسيلة ابتزاز عاطفي حتي رضخ وأصبحت معدته لها أبعاد شبه كونية.. إنه الرجل الذي تعرض لخداع فرض عليه هوس الأكل.. ثم تقول إن زعيمة البطون الخاوية بلا منازع هي الصين, فماضيها سلسلة من الكوارث الغذائية اسفرت عن اعداد لاتحصي من الموتي واول مايبادر به صيني صينيا آخر هو.. هل أكلت؟.. كانوا يحسدون أهل روسيا علي أكواب البيرة الكبيرة والعربات الضخمة.. في رأيي كل أمة هي معادلة متمحورة حول الجوع.. وحلم جميع علماء الفيزياء هو التوصل إلي تفسير الكون انطلاقا من قانون واحد اميلي نوثومب تقول.. اذا اعتبرت نفسي كونا فقانوني هو الجوع.. الجوع هو أنا.. وكلامها هذا يذكرنا بشكل أو بآخر برواية الخبز الحافي لمحمد شكري حيث الجوع والفقر هما البطل إلا ان جوع إميلي هو جوع عن غني أو مشاهدات عن جوع الآخرين في كمبوديا وبنجلاديش.. ثم الجوع الأكبر العاطفي والمعرفي.. جوع أهل نيويورك مثلا هو السعي المحموم وراء الشراهة.. في مدينة تنقل القلب من الصدر الي الصدغ المصوب عليه مسدس المتعة علي الدوام.. تمتع أو اهلك هكذا يقولون لك هناك.. والجوع ايضا هو جوع الإنسان ان يكون جميلا وأن يعبر مرحلة المراهقة في سلام لا كما عاشتها أميلي عندما قرأت المسخ لكافكا وقالت أكاد لا أصدق عيني.. إنها قصتي أنا.. الكائن المتحول الي دابة مثير الهلع في روع المحيطين به وفي روعه أن يغدو جمسه هو المجهول هو العدو وهكذا عذابات الإنسان لاتنتهي وعقله دائما تداهمه الخرائب بلا رحمة.. وانكبابي علي قراءة رواية بيوجرافية الجوع لاميلي نوثومب جعلني أعيد تأمل الاشياء بعيون جديدة.. طفولتي.. مراهقتي.. اضطرابي في عالم مجنون وملآن بالعقد النفسية.. ثم تاريخ الصراعات بين طفل وأقرانه, وبين دولة وأقرانها.. وفي النهاية تحس أنك كائن هش.. وأنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا. فتحل عليك فضيلة التواضع.. وكلما تقرأ رواية كهذه تترسخ لديك عقيدة أن الكتابة ليست إلا نوبات من الشجاعة وليست إلا متتالية موسيقية بديعة من الضعف الإنساني وكلما اكتشفت كم انت ضعيف كنت اجمل. [email protected]