مقدمها لسيادتكم " محمود جابر عبد الفتاح " تلميذ بالصف الثاني بمدرسة "..." الإعدادية ، إحدي المدارس الحكومية في منطقة العباسية .. كنت منذ يومين أقوم بغسيل سيارة أحد السكان ، نيابة عن والدي " البواب " ، حيث هو مريض منذ فترة ، فإذا بي أسمع صاحب السيارة الذي كان يستعد لركوبها يتحدث مع ساكن آخر عن مقال قرأه علي لسان أب مصري موجه إليكم ،وكذلك مقال آخر علي لسان أم مصرية ، فأعجبتني الفكرة ، وقلت بيني وبين نفسي : لماذا لا أنضم أنا أيضا باعتباري تلميذا ، لأبثك بعضا من همومي ؟ لكن كانت المشكلة أنني رغم وصولي إلي الصف الثاني الإعدادي لا أحسن الكتابة "ونفسي" قصير ، يوم أن يتحمل ، فليس أكثر من نصف صفحة أو ثلثها ، ولن تجد فيها كلمة صحيحة ،والتعبيرات ركيكة ،والعامية يغلب عليها .. وبعد تفكير تذكرت " الأستاذ بهجت " ، الذي كان أستاذا للغة العربية ، وهو الآن علي المعاش ، يسكن في عمارة مجاورة ، وسبق أن قمت له ببعض " المشاوير " والخدمات ، حيث بواب عمارتهم لم يرزق أولادا ..حكمة ربنا ! وقلت له علي المشكلة ، فاقترح أن أكتب أنا ما أريد بأي طريقة ، ويقوم هو بتصحيحها . لكن ما حدث هو أنني لم أستطع أن أكتب إلا نصف صفحة ،وعندما حاول المدرس أن يقرأها فشل في التعرف علي ما كتبته من كلمات واضطر أن يستعين بي مباشرة لأُعَرّفه بالكلمات المتضمنة في الرسالة . ساعتها سمعت الأستاذ بهجت يندب سوء حظنا ،وأننا كجيل يجهل لغة بلده ،وأن في هذا مصيبة كبيرة علي حاضر مصر ومستقبلها ، ويتحسر علي ما كان أيامه هو ، حيث كانت العادة أن يلتحق الطفل ، قبل المدرسة " بكُتّاب " يحفظ فيه بعض سور القرآن الكريم ، ويتقن اللغة العربية إتقانا ملحوظا ، علي عكس الأجيال الحالية ، التي يحرص أولياء أمورهم أن يلحقوهم ب: كي جي وان ، وكي جي تو ، لكي يكونوا علي اتصال بثقافة الغرب عن طريق اللغة الأجنبية ، ولا يكونوا علي اتصال بثقافة العروبة والإسلام ! لكنه يعرف أن ظروف مثلي لم تتح لي مثل هذا الترف ، فلما ذكرته بهذا ، قال بأنني بالتالي أتعس ، حيث فقدت الأمرين ، فلا أنا استطعت أن ألتحق بروضة لغات أو حكومة ،ولا أنا وجدت كُتّابا في منطقتنا يعلمني قرآنا ولغة عربية ! ثم وجدت أنه يطلب مني أن أشرح له كل ما أريد قوله ،ويتولي هو الصياغة ، فكان ما كان ، فهذه الرسالة إذن سيدي العزيز أفكارها من عندي أما الصياغة والتحرير فهي من مدرس اللغة العربية المتقاعد. كان أول ما قلته للأستاذ بهجت أنني أضطر إلي السير صباحا يوميا حوالي كيلو متر ونصف ذهابا ومثلها إيابا إلي ومن المدرسة ، لأن أبي لم يجد لي مدرسة حكومية أقرب إلي البيت إلا هذه ، بينما هناك مدارس أخري كثيرة قريبة : مدرسة تجريبية ،ومدرسة لغات ،ومدرسة أجنبية ،ومعهد أزهري نموذجي ،وكل هذه الأشكال ، محرمة علي أمثالي لأننا لا نملك من المال ما يعيننا علي ذلك . وأرجو ألا تكون متأثرا بفيلم البيه البواب لأحمد زكي ، فتتصور أن أبي يكسب كثيرا ، فالعمارة قديمة ،وإيجاراتها متواضعة ،وسكانها " علي قد الحال " ،وبالكاد يستطيع أبونا أن يطعمنا ويسقينا ، بفضل بعض هبات وعطايا السكان ، بل إن أبي كاد أن يحرمني من المدرسة لأنها تكلفه بعض عشرات الجنيهات ، علي الرغم من أنهم يقولون إن التعليم مجاني . كانت أكبر مشكلة لي حقا هي أنني عندما أمسك بكتاب من كتب الوزارة لأذاكر فيه لا أفهم شيئا ، لسبب بسيط ،وهو أن وسيلة الفهم ، التي هي القراءة ، كانت مستحيلة بالنسبة لي ،وهنا أيضا ينتفض الأستاذ بهجت حسرة وغيظا ،ويقسم بأنه كان يقرأ _ أحيانا _ جريدة يومية كانت مشهورة حتي أوائل عهد الثورة اسمها ( المصري ) ،وهو في المدرسة الابتدائية ، فكيف يأتي اليوم علي التعليم المصري يعجز فيه تلميذ إعدادي عن القراءة الصحيحة في كتاب مدرسي بسيط ؟ فلما سألته : وما ذنبي أنا يا أستاذ ؟ قال "معلهش يابني .. أصل أنا مفروس وأكاد ( أطق ) وأخرج من ( هدومي ) " ! ولقد تعرضت لضغط قوي من بعض مدرسي المدرسة حتي ألتحق بمجموعة من المجموعات التي تنظمها المدرسة لتقويتنا ، مع أن الأستاذ بهجت ، كاتب هذه الرسالة حكي لنا أن هذا أمر لم يكن قائما أيامه ، حيث كان المدرس يقوم بواجبه في الشرح والتعليم ، بحيث يكون تلاميذ الفصل فاهمين الدرس ، إلا من قلة . ولما سألني عن اسم مدرس اللغة العربية ، قلت له إنه " المستر محمد " ، صاح في وجهي فزعا : كيف تسميه " مستر " وهو " محمد " ومدرس للغة العربية ؟ قلت للرجل : أنني هكذا أسمعهم جميعا ينادونه ، فضربا كفا بكف قائلا : ولا حول ولا قوة إلا بالله ،وكلمات أخري ، حقيقة لم أفهمها وبالتالي لم أتذكرها !! لم أستطع أن ألتحق بالمجموعة في العام الماضي في مادتين فرسبت ، لكن المدهش حقا هو أن أحد السكان ، عندما علم ورآني منشغلا بخدمة السكان طول الوقت ،ولا أجد وقتا للمذاكرة ، سألني : كيف يمكن أن أنجح بهذه الصورة ؟ فطمأنته بأن واحدا من المدرسة أخطر أبي بأنه يمكن أن يدفع مائة جنيه عن المادة التي يرسب فيها التلميذ ،وبعدها سوف يفرجها ربنا !! كان أكثر مدرس أخاف منه هو " ..." مدرس العلوم ، فقد حدث مرة أن سألني ولم أستطع معرفة الإجابة الصحيحة ، فإذا به يهوي بكفه العريض الثقيل علي وجهي ، فشعرت وكأنه لم يضربني بيده ، بل وكأنه كان يمسك " بمرزبة " قوية ، فلما صرخت من الألم ، إذا به يعطيني " شلوتا " علي مؤخرتي ، فأسقط علي جاري . بعدها غبت عن المدرسة يومين ، حتي ينعدل شكل وجهي ،ولا أصبح مسخرة لزملائي ، حتي أن بعضهم طلب مني أن أحمد ربنا ، لأنهم رأوا في التليفزيون مدرسا تسبب ضربه لتلميذ صغير في وفاته ،وقدم للمحاكمة ،ولا أعرف بطبيعة الحال بماذا حُكم عليه . وأقول لك الحق ، يا سيدي ، أنني أسعد كثيرا لأن زمن الحصة قصير ، ذلك أن مدرستنا تعمل فترة ثانية ،وعدد تلاميذ الفصل قد وصل إلي ستين تلميذا ،وعندما يدخل المدرس ، تمر عدة دقائق إلي أن يستقر كل تلميذ علي مقعده ،ويبدأ المدرس الشرح ، حيث لا يتبقي له إلا نصف ساعة ،ويمر الوقت ، والمسكين لا " يلاحق " ، إذ كيف به متابعة هذا العدد الكبير ، في ظل هذه الدقائق المعدودة ؟ ولذلك ، فهو يضطر إلي أن " يركز " علي البعض ممن يفهمون بسرعة ، أو يتعاطون الدروس الخصوصية ،ويذاكرون . لكن ، من حسن الحظ حقا أن المدرسين ،وقت الامتحانات يساعدوننا ، حيث سمعت أن المديرية تحاسبهم حسابا شديدا إذا جاءت النتيجة الخاصة بنا ضعيفة ، فيتركوننا نغش ، بل وأحيانا ما يقولون لنا عن بعض الإجابات في بعض المواد وخصوصا الإنجليزي والرياضة ،والنتيجة هي أنني وصلت بالفعل إلي الصف الثاني ، ولا أكاد أعرف إلا القليل للغاية ،ولو طبقت علي مثلي _ وغيري كثيرون _ امتحانات حقيقية لأرجعوني إلي الصف الثالث الابتدائي " بالكتير " ! معذرة يا سيدي فقد لاحظت أن الأستاذ بهجت قد نفذ صبره ولم يعد متحملا أن يروي المزيد ، فحالته النفسية قد ساءت للغاية ،وأخشي عليه من أن يصاب بمكروه لو حكيت له المزيد ..بل أقول لك الحق ، هو نفسه ، صاح بي طالبا أن أكف عن هذا " الهباب والطين " الذي يرشح من كلامي ، قلت له يا أستاذ بهجت ، وما ذنبي أنا ؟ فرد قائلا : فعلا يا بني ، أنت ضحية ،ولنأمل في سيادتكم في إنقاذنا ،وفقكم الله ، فالمهمة ثقيلة وشاقة ..وقدرك أن تحمل خطايا من سبقوك ، مما يجعلنا ندعو الله أن تخفف منها ولا تزيد عليها ، فنحن لم نعد نتحمل المزيد !!