بصراحة لم أطق الاستمرار في مشاهدة التراجيديا الإعلامية التي عرضها التليفزيون المصري منذ نحو أسبوعين وكان بطلاها الأستاذين أحمد شوبير ومرتضي. أحزنني منطق الحوار ولغته وشكله وأسلوبه. أحزنتني التعبئة التي سبقت هذه التراجيديا وكذلك ردود الأفعال المتباينة التي تلتها. وقد قرأت أن وزير الإعلام أحال الحلقة إلي لجنة تقويم الأداء الإعلامي برئاسة الدكتور فاروق أبو زيد. لكن ما أعتقده بحق هو أن الإعلام المصري برمته في حاجة إلي لجنة عليا لإعادة تقويمه. فالمشهد الإعلامي المصري العام أصبح محزنا ومخزيا وأعتبره إهانة موجهة إلي عقل وذوق المشاهد كما أري أنه يتحمل مسئولية كبري في المستوي الثقافي والأخلاقي المتردي الذي نلمسه جميعا ونشكو منه جميعا ونلوم عليه شبابنا مع أن هذا الشباب بريء ولا يقع الذنب إلا علي الكبار. لقد هبطت نسبة مشاهدة التليفزيون المصري الرسمي بجميع قنواته بصورة تدعو للقلق والتساؤل حيث لم تعد تصل إلي30% مع استثناءات نادرة ولا ترتفع إلا في شهر رمضان لنحو75% بسبب المسلسلات التقليدية. وإذا كان هناك من يريد تكذيب هذه الأرقام فليسأل وكالات الإعلان التي تحرص علي متابعة نسب المشاهدة ومعرفتها بدقة لتقدير أسعار وتوقيتات الإعلانات ولديها هذه الأرقام التي ذكرتها. ومعني ذلك أن نحو70% من المصريين لا يشاهدون تليفزيون بلادهم ويلجأون إلي القنوات الخاصة والفضائيات العربية وأحيانا إلي القنوات الأجنبية. والعكس هو الذي يحدث في كل دول العالم حيث يكون المشاهد حريصا علي متابعة وسائل إعلامه الوطنية. لكن الأخطر من ذلك هو المضمون.. أي الرسالة الإعلامية والتي أصبحت تجنح إلي الابتذال والسوقية ومخاطبة الغرائز. والغريب أن التليفزيون المصري أصبح يقدم رسالة مزدوجة ومتناقضة.. جانب منها يعرض صورة وردية ليست موجودة في الواقع ويحاول تبرير ما لا يبرر.. والجانب الآخر يقدم صورة قاتمة تبعث علي التشاؤم واليأس وكأن كل شيء صار أسود اللون في مصر.. مع أن هناك نماذج وحكايات مشرفة تدعو للأمل, وأبطالها أناس بسطاء وأحيانا علماء ومثقفون لا نعرف عنهم شيئا مع أن دور التليفزيون هو تعريفنا بكل هؤلاء. والرسالة الإعلامية الجديرة بأن تحظي بالمصداقية واحترام المشاهد هي التي تقوم علي التصدي لنقد عيوب المجتمع وطرح مشكلاته بأمانة وشجاعة ولكن دون السقوط في الإثارة والغوغائية والمغالاة في التعبير عن الرأي.. الرسالة الإعلامية الحقيقية تقوم علي منح فرصة التعبير وإبراز من يمثلون ضمير الشعب ويختزنون حضارة مصر وثقافتها, لكنه لا تتاح لهم فرص كثيرة للتعبير عن أنفسهم نظرا لأنهم ليسوا من المسئولين ولا من كبار القوم أو من أصحاب النفوذ. ومنذ أكثر من عامين اتخذت قرارا برفض أي دعوة للمشاركة في البرامج التليفزيونية. وأعلم أن ذلك لن يؤثر كثيرا أو قليلا في المنظومة الإعلامية لكنني أشعر بالعجز المعنوي عن المساهمة بالتواجد علي خريطة المشهد الإعلامي الحالي الذي لا أوافق علي شكله أو فحواه. صحيح أن هناك بعض الضيوف في التليفزيون يشرحون القلب ويبعثون السرور في نفسي لمستواهم الراقي.. لكن يبدو الأمر وكأن هؤلاء لا يتم دعوتهم إلا علي مضض. فهناك آخرون يقدمون أنفسهم علي أنهم خبراء ومتخصصون وعالمون ببواطن الأمور ثم يتضح من كلامهم أن معلوماتهم عن الموضوع المطروح لا تتعدي ما يتردد في المقاهي والسهرات العامة. وكثيرا ما يصيبني الغضب والإحباط عندما أستمع إلي آراء تناقض العقل والمنطق ومعلومات تجافي الحقيقة وأخطاء فجة وفادحة تنم عن ضعف المستوي الثقافي.. وما يضاعف من المشكلة أن مقدمي البرنامج لا يراجعون ضيوفهم ولا ينبهون للأخطاء فيمر الأمر وكأن شيئا لم يكن وتتحول الأكاذيب والمغالطات إلي حقائق يقتنع بها الكثيرون. وفي مقدوري أن أكشف يوميا عن أخطاء في المعلومات يقع فيها ضيوف ومذيعو التليفزيون. وأنا لا أتحدث هنا عن الآراء الغريبة التي من حق أصحابها أن يعرضوها لكنه لا بد من الإسراع بالرد عليها وعرض الآراء المختلفة. وأرجو ألا يجادل أحد قائلا إن هذا هو ما يريده المشاهد.. ولعل الدليل علي أن المشاهد لا يريد ذلك هو أنه يقوم كل يوم بالتصويت ضد التليفزيون المصري من خلال الريموت كونترول أي جهاز التحكم عن بعد.. وذلك عندما يعرض عن قنوات التليفزيون الرسمي ويتحول إلي القنوات الخاصة والشبكات العربية. وفي هذه القنوات العربية نجد برامج تتضمن من الثقافة والمتعة والإثارة ما تسعد له النفوس مع أن كل من يعملون بها إما من المصريين أو من العرب الذين تربوا علي مدرسة الإعلام المصري العريقة. وهناك مثالان في ذهني الآن هما برنامجا المحاكمة وبأوراق خليجية وأتمني أن يكون في التليفزيون المصري برامج مشابهة لهما. وأتساءل: كيف يعجز التليفزيون المصري بكل إمكانياته عن تقديم برنامج يمزج فيها بين الثقافة والترفيه فيخرج المشاهد بالمتعة والفائدة في آن واحد؟ فمصر بها كل الكفاءات المطلوبة. ولا زال العالم العربي ينظر إلي كل ما يأتي من مصر باهتمام وتقدير وإعجاب. وكان الإعلام المصري حتي وقت ليس ببعيد يستحوذ علي اهتمام المشاهد العربي في كل مكان. فما الذي جري؟ وإذا أخذنا مثال السينما نجد أن النجوم المصريين هم نجوم العرب وأي برنامج فني لا تكتمل له ظروف النجاح إن لم يستضف الفنانين المصريين. فالكل يتسابق علي نجومنا ومبدعينا. أما نحن فلا نعرف كيف نستثمرهم ونستفيد منهم إعلاميا بل نبتذلهم في برامج وحوارات سطحية وتافهة لا أتصور أنها تعلي من قدرهم. لكل ذلك فأنا أطالب بتشكيل لجنة عليا من الحكماء تقوم بعملية تقويم جادة لرسالة الإعلام المصري وتوجهاته وأساليب العمل به لأنه من الواضح أن هناك خللا تركيبيا لا بد من الإسراع بإصلاحه الآن قبل أن تستفحل أضراره.