بعد زيارة قصيرة لأستاذ لى بالقاهرة، سألته: هل تحتاج إلى شيء من سيناء؟ قال: لا شيء، ثم نادانى فجأة، وقال: لا تنس «المرمرية»!، وتذكرت هذه العبارة ونحن متجمعون حول النار نتسامر ونشرب القهوة كالعادة بأحد أودية جنوبسيناء، حتى جىء بعقرب من الجوار، وأُلقى فجأة فوق النار، وعندها صاح البدو: هيا نغادر المكان بسرعة! «لقد أُحرقت العقرب»!، والهدف هو تفادى شم رائحة العقرب وهو يحترق، وهنا أدركت ماذا تعنى الروائح بصفة عامة لأهلنا فى سيناء، فهم تسرهم الروائح الطيبة ويستعملونها دواء، كالمرمرية التى حرص أستاذى على طلبها، بينما تزكم أنوفهم الروائح الفاسدة، ويعتقدون أنها تجلب الأمراض كرائحة العقرب المحترق، وعادة يسارعون بترك الأرض التى يعتقدون أن هواءها فاسد، وبالتالى فإنهم يعتبرون ماءها أيضاً غير صالح للشرب، فماذا تعنى الروائح عند أهل سيناء؟، وما حقيقة استخدامها فى العلاج؟.. إن أهل سيناء يقدرون الروائح الطيبة باعتبارها مفيدة للصحة، وهذا ما أقره الأطباء القدامى والمحدثون لعلم «العلاج بالعطور» الذى يعتمد بشكل أساسى على تنبيه حاسة الشم، ومن ثمّ التأثير على المخ، وبالتالى سرعة التأثير على النفس والمزاج، ولقد كان للعلماء العرب والمسلمين إسهامات كبيرة فى هذا المجال، ومارس بدو سيناء هذا الطب بالفطرة، فمثلا كانت أمى رحمها الله، لا تفارقها صيدليتها الخاصة، وهى عبارة عن بعض الأعشاب ذات الروائح الطيبة، وكانت تعلق بعضها برقبتى وأنا صغير لكى أستنشقها فى بعض الأحوال، وتُكثر من البخور بالبيت. ويوجد فى سيناء العديد من الأشجار والشجيرات العطرية، والزهور البرية شديدة الجمال ونفاذة الرائحة التى تتباين ألوان زهورها بشكل يسر الناظرين، وأيضا يوجد بها العديد من النباتات العطرية مثل النعناع الجبلى «الحبق» الذى يطلق عليه البدو لقب «شاى الجبل» وكذلك الريحان والزعتر والقزوح والمرمرية وحصى اللبان والشيح والبعثران والبردقوش، وغيرها الكثير، مما يدخل فى صيدلية البدوي، بالإضافة إلى أن مجارى الأودية وسفوح الجبال عادة ما تكتسى بأعشاب برية فائقة الجمال والرائحة فى فصل الربيع، حيث تنمو وتكمل دورة حياتها وتنتج البذور خلال فترة قصيرة جداً، قبل أن تنفد كميات المياه المختزنة فى التربة بعد الأمطار، ولكنها تترك أثرا وتأثيرا فى حياة أهل البادية ينتظرونه من العام للعام، ولذا يطلقون عليها «نباتات حولية» تنبت طبيعياً من بنك البذور الذى تحتفظ به التربة على مدار آلاف السنين، حتى عسل النحل الجبلى يقسمونه طبقاً لرائحته وطعمه الذى يشبه إلى حد كبير رائحة المرعى الذى يرعى به النحل البرى على النباتات العطرية والطبية التى يفضلها لغذائه، وأيضاً لحوم الجديان، فهم يفضلون لحم جدى البرم الذى رعى على زهور أشجار السيال، ورائحة وطعم لحمه لذيذة جداً، لقد علمتهم البيئة والثقافة المتوارثة الكثير عن الروائح. من هنا أدعو العلماء والمستثمرين المتخصصين فى علوم الأدوية وتصنيعها بالتعاون مع علماء النباتات العطرية والطبية إلى إقامة مشروع لتقييم الثقافة المتوارثة لدى أهلنا فى سيناء، حول استخدام النباتات العطرية والطبية الشائعة للعلاج، والخروج لنا بمشروع إنتاجى متكامل لزراعة تلك النباتات فى بيئتها الطبيعية، وتجهيزها لكى تدخل فى صناعة الأدوية المختلفة، وتوفير فرص عمل للشباب على غرار مشروع المعونة الأمريكية الشهير«LIFE» ، الذى حقق نجاحاً فى بعض مناطق البحر الأحمر والصحراء الشرقية، إذ كانت فلسفته قائمة على «العيش والدخل من البيئة».. إن صناعة الأدوية المعتمدة على النباتات العطرية والطبية تدر ربحا وفيرا ورزقا حلالا للشباب فى سيناء. د. كمال عودة غُديف أستاذ المياه بجامعة قناة السويس