عادت العلاقات بين المجر وجارتها أوكرانيا لتجنح مجددا نحو المزيد من العداء والتوتر، علي خلفية إصرار المجر علي دعم أبنائها ممن فرضت عليهم الظروف التاريخية وتداعيات الحرب العالمية الأولي وسقوط إمبراطورية النمسا المجر إلي الوقوع تحت «نير» التبعية الأوكرانية، في توقيت يشهد المزيد من التقارب بين موسكو وبودابست، بما يبدو بمثابة التعويض المعنوي والمادي عما يمارسه الاتحاد الأوروبي ضد المجر من ضغوط وما يفرضه من قيود بسبب سياساتها تجاه الهجرة غير الشرعية، وموقفها المناهض لاستمرار العقوبات الأوروبية ضد روسيا. وكانت وزارة الخارجية الأوكرانية قد استدعت مع نهاية الأسبوع الماضي ارنو كيكينيو سفير المجر في أوكرانيا لتسلمه مذكرة بشأن اعتبار ماتياش سيلادي القنصل المجري في منطقة بيريجوفو بمقاطعة ما وراء الكاربات غربي أوكرانيا «شخصا غير مرغوب فيه»، وتطلب مغادرته لأراضي البلاد في مدة أقصاها 72 ساعة . وطالبت كييف الرسمية السفير المجري بالامتناع لاحقا عن أية أعمال غير ودية تجاه أوكرانيا وعدم تجاوز القوانين الأوكرانية، في إشارة إلي استمرار قنصلية المجر في منح جوازات السفر المجرية إلي عشرات الألوف من المواطنين الأوكرانيين من ذوي الأصول المجرية المقيمين في هذه المنطقة، في الوقت الذي تعتبر فيه السلطات الأوكرانية وحسب القانون الأوكراني الحصول علي جواز السفر المجري وما يتصل بذلك من القسم علي الوفاء والولاء للوطن الأم، بمثابة «خيانة عظمي». وفي هذا الصدد أعلن بافيل كليمكين وزير خارجية أوكرانيا ضرورة «ان يعرف الجانب المجري أن منح الجنسية للمجريين الأوكرانيين سرا، سيخلق مشاكل كبيرة لهم». وأضاف الوزير الأوكراني «ان وجود الجنسية الثانية لهؤلاء المواطنين سوف يحول دون حصولهم علي وظائف حكومية وخاصة في الأجهزة الأمنية في أوكرانيا»، في إشارة إلي القانون الأوكراني الذي يحظر ازدواجية الجنسية. ولم تنتظر المجر طويلا للرد علي أوكرانيا، حيث سرعان ما أعلنت عن قرارها حول طرد القنصل الأوكراني في المجر وإمهاله 72 ساعة لمغادرة الأراضي المجرية تطبيقا لمبدأ «المعاملة بالمثل». وعزا بيتر سيارتو وزير الخارجية المجرية الذي كان قد عاد من زيارة رسمية إلي موسكو، القرار الأوكراني بشأن طرد القنصل المجري، إلي بدء الاستعدادات لإجراء الانتخابات الرئاسية المرتقبة في أوكرانيا، ورغبة الرئيس بيتر بوروشينكو في اكتساب المزيد من الشعبية علي حساب تأجيج الكراهية للمجريين المقيمين في منطقة ما وراء الكاربات. وفيما أشار الوزير المجري إلي تحول مواقف أوكرانيا مع المجر صوب الاتجاه غير الصحيح، قال انه لا يستبعد قيام كييف بالمزيد من الخطوات الاستفزازية، ومنها ما توارد من أنباء حول احتمالات الدفع بوحدات عسكرية أوكرانية إلي منطقة بيريجوفو التي يقطنها المجريون ممن ساقتهم الظروف التاريخية إلي استيطان هذه المنطقة المجرية الأصل. وألمح إلي أن المجر يمكن ان تفكر فيما إذا كانت سوف تسمح باعتماد دبلوماسي آخر كبديل للقنصل الذي اتخذت قرار طرده، وما إذا كان من الممكن استبدال القنصل المجري المطرود بدبلوماسي مجري آخر يمكن ان يحل محله في قنصلية بلاده في بيريجوفو. غير ان الأخطر قد يكمن فيما قاله سيارتو وزير الخارجية المجرية صراحة، حول «ان بلاده لن تسمح لكييف بالحصول علي عضوية الناتو ما لم تتحسن الأوضاع الخاصة بالأقليات القومية»، بما قد يعني أيضا استعداد المجر للتصويت ضد أي قرار حول انضمام أوكرانيا إلي الاتحاد الأوروبي. وكانت السلطات المجرية قد أعلنت عن تمسكها بضرورة إيفاد مراقبين من منظمة الأمن والتعاون الأوروبي إلي منطقة ما وراء الكاربات، إلي جانب الإعلان عن استعدادها لاتخاذ ما يلزم من إجراءات يمكن ان تحول لاحقا دون انضمام أوكرانيا إلي الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو . وبهذا الصدد نشير إلي انه وما كادت أوكرانيا تعلن عن طرد القنصل المجري، حتي بادرت بودابست بالاعتراض علي مشاركة وزير دفاع أوكرانيا ستيبان بولتوراك في اجتماع وزراء دفاع بلدان الناتو، وهو ما استجاب له يانس ستولتنبيرج الامين العام للحلف الذي اضطر الي الاعتذار عن تلبية رغبة الوزير الأوكراني حول حضور الاجتماع. وكان سيارتو قد كشف في مؤتمره الصحفي المشترك الذي عقده في ختام مباحثاته في موسكو مع مضيفه الروسي سيرجي لافروف، عن احتجاج بلاده ضد ما وصفه بانتهاك حقوق الأقليات من المجريين المقيمين في غربي أوكرانيا، وانتهاك حقوقهم في التعليم واللغة والثقافة والتواصل مع الوطن الأم . وأشار سيارتو إلي إصرار بلاده علي الذود عن حقوق ومصالح كل أبناء «الطائفة المجرية» في الخارج، في إطار ما سبق وأعلنه فيكتور اوربان رئيس الحكومة المجرية حول ضرورة توثيق عري الاتصالات والعلاقات مع كل من تصفهم المجر ب»ضحايا معاهدة تريانون» من المقيمين في الدول المجاورة للمجر بين أحضان الأراضي المجرية الأصل التي جري استقطاعها من أراضي المجر الأصلية. وكان اوربان قد سبق واتخذ عددا من الإجراءات التي تستهدف الحفاظ علي الهوية الوطنية لكل المجريين المقيمين في البلدان المجاورة بما في ذلك تقديم المساعدات المادية والمنح الدراسية والتسهيلات التي تكفل لهم التواصل مع الوطن الام بما في ذلك التمتع بكل حقوق أبناء المجر أينما كانوا، في محاولة لتجاوز كل تبعات توقيع «معاهدة تريانون»، التي جري توقيعها في بهو قصر تريانون الكبير في «فرساي» في ضواحي باريس، في الرابع من يونيو عام 1920. ومن المعروف ان هذه الاتفاقية أقرت إنهاء وجود إمبراطورية النمسا المجر، وإعادة رسم حدود «القارة العجوز» علي ضوء نتائج الحرب العالمية الأولي، ما أسفر عن ظهور دول جديدة مثل سلوفاكيا، وكرواتيا في يوجوسلافيا القديمة، وترانسلفانيا التي جري ضمها الي رومانيا، وهي البلدان التي قامت علي أراض مجرية ، إلي جانب ما جري اقتطاعه من أراض في شرق المجر لضمها إلي أوكرانيا المجاورة. وقد اعتبر المجريون هذه المعاهدة عقابا قاسيا لا تستحقه بلادهم، لا تزال في صدارة الأسباب التي أفقدتها مساحات هائلة من أراضيها، فضلا عن الإبقاء عليها محصورة داخل مساحة برية ضيقة، لا تحدها اي من البحار المجاورة التي كانت تطل عليها قبل التوقيع علي هذه المعاهدة التي يصفونها ب»الجائرة». وعودة إلي النزاع القائم بين المجر وأوكرانيا، نشير إلي ان بافيل كليمكين وزير الخارجية الأوكرانية، سارع بإلقاء تبعات انفجار الموقف علي كاهل روسيا التي اتهمها بانها تقف وراء تأجيجه ومحاولات تعكير صفو العلاقات المجرية الأوكرانية. ومضي كليمكين ليقول «ان موسكو سوف تواصل استغلال الخلافات القائمة بين أوكرانيا والمجر من أجل زعزعة الاستقرار في أوكرانيا عامة، وفي منطقة ما وراء الكاربات علي وجه الخصوص». وعلي ضوء الكثير من الشواهد التي تقول ان السياسات الأوكرانية تجاه الأقليات سواء كان ذلك في منطقة الدونباس ذات الأغلبية السكانية الناطقة بالروسية في جنوب شرق أوكرانيا، أو في مناطق لفوف وغيرها من مناطق غربي أوكرانيا ذات الأغلبية السكانية البولندية والرومانية الأصول، تتسم بقصور شديد يعزوه مراقبون كثيرون إلي انحياز السلطات الرسمية إلي ضغط المجموعات القومية المتطرفة، وإقرار قانون التعليم الذي يلغي حقوق التعليم باللغات القومية، فقد حاول الوزير الأوكراني التخفيف من وطأة هذا الواقع من خلال «العصا والجزرة» بوعود تقول « بضرورة تقديم المساعدات الي أبناء من وصفها ب»الطائفة المجرية الأوكرانية»، سرعان ما ألحقها بتحذيرات «من مغبة اية محاولات تستهدف التطاول علي المجريين فيما وراء الكاربات»، مؤكدا «ان ذلك سوف يكون في أطار من الحسم والحزم والشدة»، علي حد تعبيره!. علي أن الواقع الراهن ورغم تعرجات تضاريسه، وما يشوب مساراته من تعقيدات وتجاذبات، يقول بحقائق أخري تقول ان المجر تتقارب مع كل يوم جديد مع روسيا علي خلفية اتساع مساحات المصالح الوطنية بين البلدين من جانب، وتوافق المواقف المشتركة والسياسات علي الساحتين الإقليمية والدولية من جانب آخر. ومن هذا المنظور يمكن التوقف عند إعلان بودابست عن تمسكها باستمرار مشاركة روسيا في بناء المفاعلين الجديدين لمحطة «باكش» النووية، ومطالبتها للاتحاد الأوروبي حول التوقف عن معارضة مشروع نقل الغاز «التيار الجنوبي» الذي بدأت موسكو في تنفيذه بالتعاون مع تركيا ، إلي جانب مناهضتها لقرار الاتحاد الأوروبي حول استمرار العقوبات المفروضة ضد روسيا منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية في عام 2014.