تعقيبا على المقال المكثف للدكتور مصطفى الفقى فى الأهرام بتاريخ 18 الحالى تحت عنوان: التحديث ليس التغريب، أود أن أسجل التالى: لعل قارئ المقال قد بهر بالمساحة العريضة من الخبرة الدبلوماسية والهم المخلص لصاحب المقال بقضية الاستقلال العلمى، التى كان لابد أن تتطور عن الاستقلال السياسى، سواء كان فى الهند أو الصين وكلاهما سبق أن عانى نير الاستعمار. وكيف صارت اليوم الصين تعدو بخطوات واسعة فى تطور مذهل، كما أن البحث العلمى فى الهند فى تقدم ملحوظ، وإن كان لا زال يفتقر فى رأيى لاستراتيجية منهجية واضحة المعالم. وذلك يرجع لما زال يسود مراكز البحوث العلمية الهندية من الانبهار بالنموذج المعولم للتوجه السائد فى الغرب بإزاء التخصصات الدقيقة فى انعزالها عن البحث عن سبل إشباع احتياجات مختلف المجتمعات المحلية، بينما صار يعمق من انعزال تلك التخصصات اضطراد تشعباتها الداخلية دونما مسعى لربط كل منها بسياقاتها المجتمعية التى يفترض فيها أن تشبعها فى المقام الأول. وهو ما برعت فيه مجتمعات جنوبى شرقى آسيا، إلا أن الاقتصار على هذا النحو المنغلق على التخصصات وتفرعاتها، فى مسعى لتجاوز أسقفها من داخلها، والتوجه لإشباع احتياجات الأسواق الخارجية هو ما أدى لبعض الانهيارات الاقتصادية التى منيت بها بعض دول جنوبى شرقى آسيا فى العقود الأخيرة. فتوجه الإنتاج المحلى لسد احتياجات السوق العالمية، فضلا عن أنه مكرس لاقتصاد المبادلة بدلا من التركيز على إشباع احتياجات الداخل أولا، لا يكون بالضرورة نافعا للبشرية. فالبحث العلمى قد انفصل فى الغرب الحديث عن أصله المتمثل فى كونه نشاطا مجتمعيا فى صيغة باحثة عما يشبع احتياجات كل من المجتمعات المحلية. وهو ما ساد الغرب الحديث نظرا لاستحواذه عبر سياساته الاستعمارية على معظم موارد الكرة الأرضية التى صار يوظفها لتحقيق تفوقه على سائر شعوب المسكونة. لذلك فمسعى اللحاق به فى هذا المجال من جانب المجتمعات التى نفضت استعماره لها منذ ما لا يزيد على بضعة عقود ليس واقعيا، نظرا لعدم توافر الميزانيات الضخمة التى تستطيع أن توفرها لهذا الغرض. ففضلا عن أن هذا النهج يمكن أن يفضى لفيض من النتائج البحثية، إلا أن هذه يمكن لها بدورها أن تكون نافعة للبشرية، كما يمكن لها أن تكون مدمرة للطبيعة والبشر على حد سواء. ولعل نموذج اكتشاف انفلاق الذرة خير مثال على ذلك. أما النهج البديل الذى أقترحه فهو الساعى لإعادة ربط التخصص الدقيق بالخصوصية النسبية للغالبية العظمى من الأهالى فى المجتمع الذى ينتمى إليه البحث العلمى إذ لا يمكن أن تفضى نتائجه لما يضير المجتمع الذى نشأ فى أحضانه ليشبع احتياجاته. وهو ما يمثل منهجية بديلة للتوجه الغربى، إذ ينظر للبحث العلمى هنا بوصفه نشاطا اجتماعيا فى صورة تخصصية، أى من حيث انتمائه لمجتمع محلى معين، حيث يمكن لأكاديمياته العلمية المركزية أن تنسق ما تسفر عنه تلك البحوث المحلية من حلول تضيف للذات والآخر على حد سواء. وبذلك يعاد ربط التخصصات بما انفصلت عنه فى المجتمعات الغربية على مدى القرون الستة الأخيرة. فضلا عن أنها تركز على إشباع احتياجات المجتمعات المحلية فى سياق كل منها بما لا يمكن أن يشكل أى نتائج سلبية بإزائها ، بعكس توجه البحث العلمى منفصلا عن إشباع احتياجات أغلب الشعوب التى يفترض فيه أن يكرس لخدمتها، بدلا من أن يظل هائما فى خضم السوق العالمية. فإذا ما كانت الحاجة لتلك السوق تتمثل فى البحث عما يشبع ما لا يحققه الإنتاج فى الداخل عن طريق عملية تبادلية لما يفيض فى الداخل بما ينتج فى الخارج، فإن التركيز على السعى على التغلب على معوقات الإنتاج فى الداخل يقلل من الاعتماد على الخارج، ومن ثم يحقق قدرا من الاستقلال الاقتصادى. وهو ما لا يمنع بالطبع من استيراد الحلول الخارجية ، لكن ابتداء من الوعى بالاختلاف الموضوعى بين الطبيعتين الأولية والثانية ( الاجتماعية) محليا وتلك التى أنتجت الحلول الوافدة فى سياقاتها المخلتفة. وهو ما يمكن أن تبرز فيه مجتمعات الجنوب التى ذاقت عذاب الاستعمار ، ومازال معظمها يعانى ضغوط الغرب الاقتصادية عن طريق السوق العالمية. فمن خلال تمفصل هذه العلاقة بين الذات المجتمعية والآخر يمكن أن ينتج حلولا تشبع احتياجات الداخل على نحو أنجع، كما تضيف للآخر بما يدفع البحث العلمى فى العالم لآفاق متجاوزة لآخر ما توصل اليه. وهذا هو مشروع كتابنا الصادر مؤخرا: الإسهام العربى المعاصر فى الثقافة العالمية: حوار عربى - غربى. لمزيد من مقالات ◀ د. مجدى يوسف